من وحي الهجرة الشريفة

ما كانت حكاية تروى ولكنها طريق تقتفى، ما كان تاريخا يملى ولكن عبرا تؤخذ وتتلى، هي دروس وعبر لا يحدها زمان ولا مكان، هي سبيل مليئة بالتضحيات الجسام، موسومة بالأعمال العظام، لتتبعها أمة بحاجة أن تؤسس حاضرا وتبني مستقبلا أعياه ثقل تاريخ تغنت أجياله لزمن بالأمجاد دون أن تتمثلها، والبطولات دون أن تعمل على بعثها.
تلك ذكرى الهجرة الشريفة، هجرة خاضها المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد تخطيط رصين، وبتصميم عظيم ليوافق إرادة الله سبحانه في نصرة الدين وبناء ذات الأمة ودولتها الفتية.
ما أشبه اليوم بالبارحة! ما أشبه واقعا يئن تحت نير المظالم بواقع شبيه له، لكن قائده كان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ هو ظلم كان جاثما وعدوا متربصا مكشرا أنيابه الملوثة بدماء الأبرياء، هو ذات العدو اليوم الذي يشيع الباطل ويستظل بظلاله ويضيق وينكل ويعادي. قائد ذلك الزمان المصطفى صلى الله عليه وسلم حول بعناية ربانية المستحيل واقعا ملموسا، نقل الأمة من شتات وتفرق وتنازع إلى قوة بانية صادقة يحسب لها ألف حساب، أنار غياهب القلوب المظلمة ووجهها إلى دروب السلامة والاستقامة، تمكن بتوفيق إلهي عظيم أن يوصل السفينة بر الأمان، ويدعها أمانة إلى يوم الدين في أيادي الآخرين. فأين صدق الرعاية وقوة العناية؟
هو تاريخ مضى كتب بماء الذهب، خلد بطولات قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه.
هو تاريخ كتب بدماء شهداء المواقع كلها، كتب بصبر سمية وياسر وعمار، ودماء حمزة ومصعب، وطعنات نسيبة، وجلَد أبي بكر وقوة عمر وكل الأصحاب والصحابيات الكرام رضي الله عنهم.
هو تاريخ ينبغي أن يعاد، انكسر وينبغي أن يبنى بقوة إيمان أتباع هذا الدين وصدق محبتهم لرسول الله الأمين صلى الله عليه وسلم.
هو تاريخ ننظر إليه بشموخ وإعجاب، ونستحيي أن يضيع في دروب الوَهْنِ المذل والأنانيات الفارغة والانبطاح المخزي.
لا نرضى أبدا أن تضيع دموع ذرفت ودماء سكبت في غور العدم، ولا شيء يضيع في ميزان الآخرة، هو الهم والعزم والإصرار على سلوك ذات الطريق توكلا على الله، طريق العزة بالله تعالى والنصرة لدينه بالكلمة الصادقة، بالعمل الجاد، بإتقان المسؤوليات، بقوة العلم، بصدق الطلب، بعمق المحبة التي تحمل على الطاعة والاتباع ولا تنسى ما بذله المحبوب ليبلغ رسالة الحبيب.
هي أيادٍ حان لها أن تلتف، وجهود وجب أن تتوحد، وعزائم ينبغي أن تشحذ لبناء الغد الأغر، لبناء أمة الإسلام ودولة الإسلام لتنهض من انتكاسات الحاضر وانكسار الماضي قوية أمينة على المجد التليد، على رسالة رب العالمين للعالمين، لتخرجهم من جور الأديان إلى قوة الإيمان، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
المهاجر من هجر ما حرم الله عز وجل، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، كذا علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمحسن حقا من عبد الله كأنه يراه وارتقى في مدارج المعرفة به سبحانه لينال رحمته ورضاه، واقتفى الأصول ليدرك الوصول.
وكل عام ولكم الرضى.