عمل المرأة من الموجود إلى الموعود

توطئة
بالنظر اليوم إلى طبيعة الإكراهات الاقتصادية والتغيرات التي حدثت على مستوى علاقات التكافل فأحدثت انحرافا على مستوى قيم المجتمع، وبالنظر إلى العاهات الاجتماعية من الفقر والجهل والأمية والانفلات الأخلاقي وكيف أسهمت جميعها وتواطأت في تفشي ظواهر الطلاق والتفكك الأسري، وجدت المرأة نفسها في مواجهة مباشرة وغير عادلة مع أعباء الحياة ومتطلباتها دون سلاح أو مدد، حتى أن السؤال الذي طرح يوما ما عن مشروعية عمل المرأة أصبح اليوم فاقدا للشرعية، وبات من الرفاهية التي قد تطرح في صالونات النخبة المغيبة عن واقع الإكراه الذي ساق المرأة إلى عمل تغيب العدالة وتندحر القيم في حلقاته الضيقة، وفي حلقاته الأوسع يعم الاستبداد السياسي وقرينه الفساد الاقتصادي الذي يجوع الإنسان ويصنع حاجته وعوزه، ليستغله فيما بعد بأبخس الأثمان تحت طائلة شروطه المهينة فيما يشبه عقود الإذعان، كأحد مظاهر العبودية المغلفة، حيث تتحكم إرادة الطرف الذي يمتلك السلطة والسطوة، بينما الطرف الثاني، إرادة العيش تدفعه للتخلي عن إرادة الكرامة.
1- الإكراه الاقتصادي أكبر دافع لعمل المرأة
بقراءة بسيطة للأرقام المتعلقة بنسب الفقر في المغرب يمكن للصورة أن تكون أكثر وضوحا، فحسب تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة صادر شهر يوليو 2019، فإن 45 بالمئة من المغاربة يعانون من الحرمان، وحسب المندوبية السامية للإحصاء لسنة 2018 فإن النساء يمثلن 50,1 بالمئة من مجموع سكان المغرب، و18,4 بالمئة من أرباب الأسر هن نساء، و7 من كل 10 نساء من أرباب الأسر هن إما مطلقات أو أرامل، وما يزيد الطين بلة أن 65,6 منهن أميات، هذا ما يفسر الدوافع الحقيقية خلف خروج المرأة للعمل تحت سيف الإكراهات الاقتصادية، بعيدا عن خطاب التمكين والاستقلالية المادية وإثبات الذات الذي يبدو أنه ما يزال بعيدا عن متناول المرأة المغربية رغم مشروعيته، إلا ضمن حلقات ضيقة جدا، خاصة وأن الغالبية العظمى من النساء العاملات يشتغلن في القطاع غير المهيكل في ظروف عمل أبعد ما تكون عن الإنسانية، وبدون أمان وظيفي، وخارج الغطاء القانوني، لذلك يبقى سؤال البحث عن الذات ضائعا، ويهيمن سؤال البحث عن لقمة العيش وحسب، طبعا بسبب التوجهات اللاوطنية لاقتصاد يسيطر عليه إقطاع الشركات، مرتهن لتحكم الرأسمال الأجنبي الذي يصنع حروبا ليضاعف أرباحه، ويشتغل بنظام الريع واحتكار الثروة من طرف المتنفذين الدائرين في فلك السلطة المستبدة، التي قد تقتل شعبا وتصادر حريته لتحافظ على هيبتها المزعومة، وتحمي مصالحها ومصالح المرتبطين بها ضمن حلقات الفساد، فنظام هذه سماته، من الطبيعي جدا أن ينتج الفقر ويصنع حرمان المغاربة حيث تشكل المرأة أزيد بقليل من نصف تعدادهم، كما أن توسع الفقر في مقابل ارتفاع تكاليف الحياة بسبب الغلاء، ألزم المرأة بالعمل للمساعدة في تكاليف المعيش اليومي للأسرة حتى لو لم تكن هي المعيل الوحيد.
2- أي تكلفة تدفعها المرأة بسبب العمل؟
لا شك أن معاناة المرأة العاملة معاناة مركبة، وحتى لو لم تكن كل العاملات كتلة واحدة، إلا أنهن يشتركن في كثير من نقاط التقاطع، ويزداد العبء ويتضاعف كلما كانت الفئات أكثر هشاشة وأكثر ضعفا، فالعاملات في الوظيفة العمومية، وإن كن يتمتعن بنوع من الاستقرار والأمان الوظيفي مقارنة بالعاملات في القطاع الخاص والقطاع غير المهيكل، إلا أنهن يشتركن مع عموم النساء العاملات في تعرضهن للتمييز بسبب الجنس، الذي يصل في أحيان كثيرة إلى التحرش في أماكن العمل، والحرمان من الولوج إلى مراكز القرار، إضافة للأعباء التي ما زال المجتمع ينظر إليها بوصفها واجبا من واجبات المرأة وحدها، كأشغال البيت ورعاية الأسرة، والتدريس للأبناء، مما يجعل التكلفة التي تدفعها المرأة العاملة باهظة جدا ترهق كاهلها وتستنزف طاقتها مقارنة بالعامل الذي يكون وإياها على نفس الدرجة وبنفس الكفاءة، تزداد هذه التكلفة بالنسبة للعاملات في القطاع الخاص، حيث تعتبر العاملة الزراعية أكثر الفئات هشاشة؛ الأجور المتدنية، وساعات العمل المرهقة، وظروف العمل غير الآمنة صحيا وأمنيا، ووسائل النقل المهترئة، وانعدام الحماية القانونية من جشع أصحاب الضيعات تحت مرأى ومسمع الدولة التي تتخذ موقف المتفرج المحايد، تصنع قوانين فقط ليكون مصيرها أن تبقى حبيسة الورق الذي كتبت عليه، وقد كشفت محنة “كورونا” مزيدا من الاعتلالات البنيوية والنفاق السياسي الذي تمارسه الدولة التي تسوق لشعارات إنصاف المرأة وتمكينها، إذ تتغاضى عن الخروقات السافرة لأصحاب الضيعات (بؤرة لالة ميمونة) وأصحاب الوحدات الصناعية (بؤرة رونو ومصنع السردين) حيث كانت الأغلبية الساحقة ممن أضاف الوباء معاناة أخرى إلى معاناتهم المتجددة من النساء.
إذن فعمل المرأة الذي يتيحه الموجود مظروف بشروط الاستبداد السياسي، الذي غيب العدل في الحكم وفي قسمة الأرزاق، ومارس عنفا اقتصاديا تمثل في احتكاره لمقدرات البلد وخيراتها، وحرم فئات عريضة من حق الشغل ومن مصادر العيش الكريم، واستعبد فئات أخرى لتدير عجلة اقتصاده، حيث ينمي الثروات ويضخم الأرصدة مقابل أجور زهيدة لعمالة رخيصة تبتزها تكاليف الحياة وقلة الموارد في غياب لاحترام آدمية الإنسان وكرامته، إضافة إلى استبداد المجتمع الذي ألزمها بما يتعدى طاقتها فحولها إلى مكدودة منهكة تارة بسبب تعدد المهام والواجبات، ودمية معبودة تارة أخرى حينما يحتقر إنسانيتها وينظر إليها مجرد جسد للمتعة واستفراغ الشهوات المريضة، فتتعرض بالتالي للتحرش والاغتصاب، أو ينظر إلى ضعف جسدها تارات أخرى لتكون هدفا لكل أنواع التعنيف إذا قاومت وأبدت رأيا مخالفا.
أما المأمول فهو أن تنجز الدولة وعودها لتنسجم النصوص مع الواقع، وأن يتصالح المجتمع مع أصوله المرجعية ليتحقق الإنصاف وفق شريعة الله العادلة التي كرمت الإنسان ونادته بأمانه الاستخلاف. ومن ثم يظهر أن هناك مدخلين أساسين لإعادة النظر بشأن عمل المرأة؛ مدخل سياسي، ومدخل تربوي.
3- مداخل النهوض بعمل المرأة
المدخل السياسي
لقد أصبح مسلما أن المرأة، حسب الإحصاءات الرسمية، تشكل نصف المجتمع أو أكثر من ذلك بقليل، فحتى لو لم ترغب هي في العمل، فشروط التنمية توجب انخراطها لتحقيق التوازن الاقتصادي، والحقيقة أن المرأة لطالما شدت أزر الأسرة والمجتمع بعملها على مدار العصور والأزمنة، وإن لم تتقاضى أجرا في المقابل، ولن تكون لا الدولة ولا المجتمع على استعداد للتخلي عن مشاركة المرأة في الإنتاج، لكن كلاهما يريد ذلك وفق شروط تحرم فيها المرأة من حقوقها، فالزوج حينما تزوج عاملة لتعينه على تكاليف الحياة، التي أحالها الاستبداد السياسي ضنكا لكليهما، لم يكن مستعدا لإعانتها على مهام البيت، على اعتبار أنها وظيفة أصيلة للمرأة، والنظام الاقتصادي المتوحش المسقط للقيم، ليس مستعدا للتنازل عن اليد العاملة الرخيصة، والمتمثلة في المرأة الأمية الجاهلة المفقرة المعيلة لأسرة تنتظر نتاج كدها لتقتات، ويستغل الثغرات الكثيرة للتقليص من تكلفة الإنتاج، ليعتاش على امتصاص دمها، في دولة تتخذ من الحق والقانون شعارا لها، بينما في الواقع تتركها نهبا للإقطاع الجديد، وابتكاره لمظاهر جديدة لاستجلاب عبيد السخرة في إقطاعياته الزراعية أو الصناعية.
المدخل السياسي يستوجب تفعيل شروط الديمقراطية الحقيقية التي يجب أن تقوم بعملية جراحية لفصل السلطة عن الثروة، حتى ينفصل القرار السياسي عن تأثير رأس المال، فيصبح تحت سلطة القانون ورقابة المؤسسات التي يجب أن تمثل الإرادة الشعبية، وتحمي بالتبع حقوق الإنسان.
المرأة اليوم ليست في حاجة لنفاق الدولة بانخراطها في مجموعة من الاتفاقيات الدولية، وإحداث مجموعة من الإصلاحات التشريعية التي تهدف إلى إنصافها تحت ضغط المنتظم الدولي وحسب، بقدر ما تحتاج إلى تفعيل تلك النصوص والاتفاقيات لتستمد قوتها مما تستجلبه من منافع، ومما تدفعه من مفاسد.
طبعا لن نتوقع معجزة في هذا الباب، فأكبر مستفيد من معاناة المرأة هو الاستبداد السياسي وأذرعه الاقتصادية، لذلك فالمعول عليه هو تشكيل جبهات لمقاومة الفساد، جبهة نسائية لإعادة تشكيل الوعي بالحقوق، والتكتل من أجل انتزاعها، ثم السعي لمحاربة آفة الجهل والأمية، والعمل على تطوير المهارات التكوينية والتدريبية والتخصصية، والضغط لتفعيل القوانين المسطرة عبر إحراج الجهات المعنية، وهذه كلها أوراش مفتوحة أمام النخب النسائية المنادية بإنصاف المرأة. جبهة أخرى وجب رصها، هي جبهة النخب المناهضة للاستبداد والفساد، من فضلاء الوطن توحيدا للجهود لفرض إرادة التغيير، وإرغام الاستبداد على التراجع، وهو ورش كبير يحتاج للكثير من الجهد والبذل، طبعا ضمن أجواء تسود فيها الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان، لكن ما يجعله يبدو مستحيلا هو وضعية التشرذم التي تعاني منها هذه النخب بسبب الاختلافات الفكرية والإيديولوجية، فإن تَحَقّق ذلك فلن يكون عمل المرأة إلا تمكينا لها من جهة ومن جهة ثانية رافعة للتنمية وإسهاما في أوراش البناء.
المدخل التربوي
يشترط أن يتصالح المجتمع مع أصوله المرجعية في شريعة الإسلام التي كرمت الإنسان، وجعلت الولاية بين المومنين والأخوة الجامعة لشمل الأمة تذيب اختلافات الجنس، ومهمة بناء العمران شأنا عاما للكافة دون استثناء، لكن الخلل تسرب حينما ضاعت معالم التربية الإيمانية التي حصنت المجتمع المسلم، فبدأ ينظر للمرأة كحلقة ضعيفة ضمن منظومة القوى المشكلة للسلطة، ومن ثم تدنت مكانتها وفاعليتها ومشاركتها داخل المجتمع، وفقد احترامها، واقتصر النظر لدورها فقط كزوجة وربة بيت ضمن الشروط المفروضة اجتماعيا، حتى إذا أجبرتها الإكراهات الاقتصادية للخروج للعمل ظلت وظائف خدمة البيت ورعاية الأسرة لصيقة بها وحدها، في تغييب لمقاصد العدل والإنصاف الذي أقرتهما الشريعة الإسلامية، ومن جهة أخرى يزداد الوضع سوءا، ويغيب الضمير الإنساني في الأوضاع الأكثر هشاشة، كحال خادمات البيوت، وأجيرات العمل في المقاهي، والعاملات في الوحدات الصناعية، ممن تمتهن كرامتهن، وتنتهك أجسادهن من المشغل أو رئيس العمل، في مقايضة سافرة بين القبول أو الطرد من العمل، وتزداد الصورة قتامة ووحشية عندما يكون الاعتداء حتى من شريك درب المعاناة الذي يجد فيها أنثى يستبيح جسدها كما هو الشأن في حالات كثيرة للعاملات الزراعيات، طبعا دون تعميم، لكن المشكل الذي أصبح ظاهرة يؤكد على ضرورة المدخل التربوي، ليستفيق ضمير المجتمع، طبعا عبر حلقات مرتبطة بإعادة بناء قنوات التنشئة وفقا لمبادئ احترام الإنسان، وهو أيضا من الأوراش المفتوحة أمام الفاعليين المجتمعيين في معركة الدفاع عن مختلف قضايا المرأة.