الهجرة وبداية التمكين لدين الله

بعد عقد من السنين ونيف من الدعوة إلى الله في مكة وما صاحبها من ابتلاء وشدة وإعراض وإذاية، هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حيث أذن الله بطي صفحة الابتلاء والاستضعاف وبداية التمكين لدينه.
بشائر هذا الأمر ابتدأت بالاستقبال الحافل للأنصار واحتفائهم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن انفتحت قلوبهم للإيمان بمحض إرادتهم، وبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية واستأمنوه على أرواحهم وأموالهم، وما ذلك إلا لأنهم سبقت لهم من الله الحسنى فاختارهم من دون قبائل العرب لهذا الخير، فما أكثر ما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجاج بيت الله نصرة دينه.
لم تكن رحلة الهجرة حدثا عاديا في تاريخ الإسلام بل كانت بداية التنصيص على مدنية الإسلام وبروز معالم الدولة المستظلة بظلال القرآن، بعد أن أسست الفترة المكية النواة الصلبة للإيمان بالله من رجال ونساء لفظوا الجاهلية وتشربوا مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصقلتهم الابتلاءات، فكانت المدينة أرضا طيبة لبناء المجتمع الجديد بعد أن تعذر الأمر في بلد المنطلق مكة المكرمة، فكان في أول القدوم اختيار مكان للمسجد مقرا لاجتماع المسلمين والتداول فيما بينهم في أمورهم الأخروية والدنيوية، وبدء التمايز في الوحي المنزل بمكة والمنزل بالمدينة الذي انطبع أكثر بأحكام المعاملات والعقود في حين كانت السور المكية كلها تثبيت للإيمان ودعوة لله، ثم سهر صلى الله عليه وسلم على تنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار؛ حيث نمت وترعرعت وشائج الأخوة الإيمانية في أسمى تجلياتها، وأعطى الإسلام الدليل المادي على قدرته على إحداث مجتمع العمران الأخوي، فكان بذلك مجتمع المدينة من مهاجرين وأنصار متفردا في سمو العلاقة التي جمعت بين أطرافه والتي بلغت حد الإيثار، ثم كانت صحيفة المدينة كأول معاهدة بين المسلمين واليهود الذين يقاسمونهم نفس المكان نموذجا للعلاقة التي تجمع المجتمع المسلم بمحيطه الإنساني.
كلها معالم تؤكد على الطبيعة المدنية والحضارية للإسلام، والتي بدأت تتجلى واقعيا محدثة نقلة نوعية في تلك الفترة الزمنية من مجتمعات قبلية وشائجها دموية وعصبية إلى مجتمع تحكمه شرائع، متجاوزا بذلك مفهوم الانتماء القبلي إلى مدنية متحضرة أسست أشكالا من الحكم والتداول عليه، ونظمت مصالح الدولة في السلم والحرب، وكذا قعدت لقضاء وحسبة وتجارة ثم ثقافة وعلوم غيرت جذريا معالم المكان، وروح وعقل الإنسان، وطبيعة العلاقات والنفسيات، مؤسسة بذلك لحضارة إنسانية عظيمة حفظت للإنسان إنسانيته وأسهمت إسهاما جليلا في التاريخ.
فكان بذلك حدث الهجرة نقطة انطلاق وبداية جديدة للعالم الإسلامي وحضارته، التقط سيدنا عمر بن الخطاب دلالاته في إرهاصاته الأولى فاختار أن تكون الهجرة بداية تقويم التاريخ الإسلامي.
ونحن نخلد هذا الحدث العظيم نستحضر هذه المعالم التي جاء من أجلها الإسلام لنبني على أساسها عراه التي انتقضت واحدة تلو الأخرى، ومستبشرين بهذا التغير العميق من استضعاف إلى تمكين كانت بدايته هجرة مباركة.