الهجرة في القـرآن

خلد القرآن الكريم حدث الهجرة قبل أن يخلده التقويم الهجري الذي سنه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. خلده عندما سمَّى صحابةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار. لم ينعتهم بأهل مكة أو المدينة بل بأعظم الأعمال التي غيرت دنياهم وآخرتهم. لم يخلد كتاب الله تعالى بهذا الوصف الحدثَ التاريخيّ لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من مكة إلى المدينة فحسب، بل خلد معناه وجعله متجددا مستمرا في الأمة المحمدية عبر الأزمان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها” [رواه مسلم وأبو داوود]. حقق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم النموذجَ الأولَ للهجرة والنصرة، فكيف كان هؤلاء الأخيار؟ وبم تميزوا؟ وبم وعدهم ربهم جل وعلا؟ لنكتشف بعضا من ذلك في كتاب الله عز وجل عسانا نحذو حذوهم ونتلقى وعدهم.
يبتغون فضلا من الله ورضوانا
يقول الله سبحانه وتعالى: للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون اللهَ ورسولَه أولئك همُ الصادقون [الحشر، 8]. كان البذل عظيما: ترك الديار والأموال والأهل، لكن القصدَ كان أعظمُ: فضل الله ورضوانه. لم يخرجوا ابتغاء الجاه أو الرئاسة ولا طمعا في دنيا يصيبونها أو امرأة ينكحونها، بل سعوا لنصرة الله ورسوله حتى يرضى عنهم ربهم جل وعلا، وبذلك استحقوا أن يصفهم بالصادقين؛ صدق في النية والقصد والعمل.
يحبون من هاجر إليهم
ثم يصف الله تعالى الأنصار في الآية التالية: والذين تبوَّأوا الدارَ والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أُوتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شُح نفسه فأولئك همُ المفلحون [الحشر، 9].
لقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فأحب الأنصارُ المهاجرينَ وصحبوهم. محبة أثمرت تآزرا وتكافلا، فقد آووهم وقاسموهم أموالهم، بل آثروهـم على أنفسهم.
فسبحان الله، كيف طَهَّرت الصحبةُ والمحبةُ النفوسَ من الشح وسلكت بها في طريق الفلاح لاستكمال الإيمان، إذ الحب في الله أوثق عرى الإيمان والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آوَوا ونصروا أولئك همُ المومنون حقا. لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريم [الأنفال، 75].
ولأجر الآخرة أكبـر
وعد الله عز وجل جندَه من المهاجرين والأنصار بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض، وقد حقق الله تعالى وعده فدخلوا مكة فاتحين بعد أن أخرجوا منها فارين بدينهم. يقول سبحانه وتعالى: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلموا لَنُبَوّئَنَّهم في الدنيا حسنةً. ولأجرُ الآخرة أكبرُ لو كانوا يعلمون [النحل، 41]. أعطاهم الله حسنةَ الدنيا لكنه وعدهم بأجر أكبر في الآخرة، وجَّهَهُم للآخرة حتى لا تكون الدنيا نهايةَ قصدهم، بل يكـون قصدُهم الله جل وعلا. في آيات بينات يأتيهم الوعد بأنهم أعظم درجة عند الله، وأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنهم هم الفائزون بالفوز العظيم وهم الذين رضيَ اللهُ عنهم ورضوا عنه: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. وأعد لهم جنات تجري تحتَها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [التوبة، 101].
والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عن المهاجرين والأنصار، ورضي عن الذين اتبعوهم بإحسان. فالحمد لله الذي ادخر لنا مكانا في رضاه، بشرط اتباعهم بإحسان. ما أخبرنا الله تعالى عن الدرجة العظيمة عنده والفوز العظيم لكي نسمـع ونستأنس، بل لكي تنهض في قلوبنا هممٌ وتتحرك عزائم لطلبها والسعي إليها كما طلبها الأولون.
فكيف نتبعهم بإحسان؟ وكيف نحذو حذوهم؟ وكيف نجدد في هذا الزمان معنى الهجرة والنصرة؟
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “ليست الهجرة والنصرة حركتين تاريخيتين انتهتا: المهاجرُ من هاجر ما حرَّمَ اللهُ كما جاء في الحديث، والهجرةُ قَطعٌ لما بينك وبين ماض بعيد عن الالتزام بالجهاد. والنصرة بذل وعطاء وانتصار لقضية الإسلام” [كتاب “المنهاج النبوي”، ص 66].
ما أحوج الإسلام لمن يجاهد ويبذل ويعطي لنصرته، لمن يجدد هذه المعاني على خطى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
جعلنا الله من الذين اتبعوهم بإحسان، ممن قال فيهم الله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا. ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر، 10].