إذا احتاج المسلمون..

ما أشد تهافت الخلق على المال، وما أعظم شرههم لجمعه واقتنائه، أضحى عند البعض أكبر الغايات ومنتهى الأمنيات، لا يرضى منه بهزيل الكميات، وتفرق الناس في حبه مذاهب واتجاهات، بين محب عاشق ولهان متفان في الإخلاص له والخضوع لسلطانه، وعابث ماجن لا يحسن تدبيره، وآخر متزهد فيه لا يقبل الافتتان ببريقه، وآخر يحوزه من حق ولا ينفقه إلا في حق. فما يا ترى حقيقة النظرة الشرعية للمال؟
كرم الله تعالى الإنسان من بين جميع خلقه تكريما، وخصه بما لم يخص به غيره من النعم تخصيصا، ونظم حياته وفق منظومة متكاملة من التشريعات، اعتبر خضوعها لها برهان صدق ومؤشر تفوق في امتحان الطاعة، ودلالة باهرة على حقيقة الإيمان والعبودية. قال سبحانه: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (الحديد، 7)، آية شريفة من خلالها أبرز المنعم سبحانه علاقة العبد بالمال، أراده الله سيدا وما أراده مسودا، ما ارتضى له أن يكون عبدا للدرهم ولا الدينار ولا الخميصة، خلق الله تعالى المال من أجله ولم يخلقه للمال، جعله له سبحانه وسيلة لعمارة الأرض وسبيلا للسير بالبشرية نحو السعادة الحقيقة، تلك السعادة الموصولة بالله تعالى عبودية، وبرسوله صلى الله عليه وسلم محبة واقتداء، وبالصالحين صحبة ودعوة وجهادا، والمنسجمة مع التصور الإسلامي العام للوجود والمصير.
أعود بفكري إلى تلك الأجواء الطيبة، وأجول ببصري في تلك الرحاب العامرة المنورة الزكية برسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم الأعظم، المغمورة بفيوضات راقية لمعاني الإخاء والمحبة والتكافل، أبدا لا يستقيم أن يبيت المؤمن شبعانا وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم به، ولا عبرة بأهل عرصة تضور أحدهم جوعا وهم يعيشون الكفاف. مقصد إيماني يقينا يتعدى الأفراد ليصير روحا تسري في الجماعة المؤمنة. الذمة الإسلامية في ذلك العصر كما في غيرها من العصور لن تبرأ مع وجود جوعى يتضورون من شدة المخمصة وآخرون يتمايلون ترفا وتخمة. روى أبو سعيد الخدري فيما أخرجه الإمام مسلم رضي الله عنه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له”، قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل”.
إخراج الفضول لذوي الحاجات مقصد فهمه الصحابة رضي الله عنهم، وترجمه الخليفة الفاروق رضي الله عنه حينما قال: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين”.
لا يتلاءم مع التصور الإسلامي للمال والحياة، أن ترفل فئة قليلة في البذخ وعموم الأمة من الفقر تشكو، وتصطلي بنار الفاقة. أين نحن من القاعدة الفقهية التي تقول: “إذا احتاج المسلمون فلا مال لأحد”.
لا يتلاءم، واقعا، أن تعيش بعض الأقطار الإسلامية الفقر المدقع وجزء منها غارق في النعيم، بل وبداخل القطر الواحد حين يتملك أقل من عشر الساكنة الثروات الأساسية، والباقون يتفرجون على مسرحية اقتسام الغنائم التي ليس لهم منها نصيب.
للفقر والنعيم صور تؤثث نشرات الأخبار والاقتصاد لعالمنا، فننظر إلى المجاعة القاتلة ولقيمات تجود بها منظمات إنسانية لشعوب بائسة.
إن الإسلام أيها السادة لا يمنع التملك، ولكنه يؤسس لمفهوم جديد له، ربنا عز وجل فيه هو المالك الحقيقي للمال بالخلق والإنشاء، وهو ملك للأمة بالاستخلاف، وهو لفلان وعلان بالتصرف الراضخ لإرادة المولى سبحانه صاحبه الأصلي.
ليس الإسلام أيها السادة يقيد حرية الأفراد، ولكنه يشيد صرح العمران الأخوي الذي تكون فيه الأجساد المتناثرة هنا وهناك بنيانا متراصا يشد بعضه بعضا، تغمره العاطفة الإيمانية وتعضده وتلقي بأنوارها الساطعة عليه، فتنقشع غيوم القلوب المتكدرة، وتقوم أصلاب الأجساد المتضورة من شدة الطوى.
إنه الإيمان أيها السادة، الذي حول أجسادا لا رابطة بينها إلى وحدة متلاحمة تشع محبة وكرما ومجدا، تقتسم اللقمة وتتلذذ بالتكافل، بل تراه واجبا إيمانيا، ومرقاة إلى الله تعالى، وزادا أخرويا، وعنوانا لصاحبه في الملإ الأعلى.