عبق من الطفولة

عندما كنا صغارا لا نفقه من الدنيا إلا اللعب، وبعضا من الواجبات الضرورية التي كنا نساق إليها دون معرفة، وحتى دون رغبة في بعض الأحيان، كانت أقصى أمانينا لعبة نلعبها مع أتراب الحي غير عابئين بالزمن و لا حتى بالمكان، كانت اجتماعات العائلات تعتبر عيدا من الأعياد، مناسباتنا كانت لها فرحتان، فرحة المناسبة وفرحة التجمع.
لُعبنا كنا نصنعها بأيدينا، ونخترع لها قوانين، نطورها إلى أن نحصل على براءة اختراعها، وقد نقوم بتصديرها للحي المجاور بمقايضة لعبة أخرى، أو القليل من “البرقوق” المخلل أو حتى حبات من اللّب التي نتقاسمها بكل سعادة.
كان الكبير منا يملك بيده زمام المبادرة فيختار اللعبة التي يريدها هو، وبعدها يحدد أعضاء الفريق الذي يفضله، وكانت غالبا ما تنتهي بمشاداة ثم بتدخلات للصلح بين القيادتين، فالانطلاق الآمن في اللعبة التي لا نمل من تكراراها، ومع توالي السنوات تتغير القيادات فتنتقل الزعامة كما ينتقل صولجان الحكم من الأكبر إلى الأصغر، وتستمر المتعة جيلا بعد جيل، نتوارثها نحن الصغار إلى أن يحين دورنا، ودون إدراك نتبع نحلة السابقين من إخوتنا الكبار.
كانت متعتنا لا تضاهيها متعة، خصوصا مع نهاية موسم الحصاد وإحضار أبي رحمه الله خيرات البلدة من قمح وحمص وفول… إذ تنطلق المراسيم السنوية الجميلة، لتنطلق معها بهجتنا وفرحتنا – نحن الأطفال آنذاك – فما تكاد شمس اليوم الموالي ترسل خيوطها حتى تجتمع الوفود من جارات أمي وصديقاتها العزيزات بدعوة رسمية سامية منها شخصيا، لنرى حملة واسعة لغسل القمح وفق طقوس خاصة ووضعه على حصير من البلاستيك ليجف، ثم تتكرر العملية في اليوم الموالي والذي يليه، حتى يأتي اليوم الموعود حيث يجتمع الجميع برئاسة أمي الحبيبة – بحديقة منزلنا الخلفية – وتنطلق معها زغاريد وغناء ما يزال يصدح في أذناي إلى الآن، أتساءل أكان ذلك تعبيرا عن فرحة أم تمضية وقت، وهن يقمن بتنقية القمح مع رائحة المخبوزات الشهية التي تبدأ مع بداية العمل وتنتهي معه، وطبعا بين هذه الطقوس كانت فرحتنا ونحن نلعب ونقفز وننتقل من مكان إلى آخر دون رقيب أو محاسبة عارمة.
ذكريات طبعت في قلوبنا، وتركت بصمتها حتى شعرنا بالارتواء، ساهمت بشكل كبير في بناء شخصيتنا.
ذكريات تتسابق لتنسج شخصية متكاملة، مشبعة بالقيم والتجارب الفعلية، يستطيع معها الإنسان أن يجابه ما يلاقيه في معترك هذا العالم الموار.
هذا ما ساهم آباؤنا فيه لتنمية شخصيتنا – عن قصد أو بدونه – ويغالبني الحزن والأسى على أبنائنا فأشعر بالمسؤولية اتجاههم؛ إذ تغيرت أشكال اللعب وتغيرت أنواع المتع؛ قد يجتمعون في غرفة واحدة ولساعات طوال ولكنهم يتواصلون عبر وسائط افتراضية، ففي خضم اجتماعهم نجدهم متفرقين، غابت قهقهات الطفولة والمشاداة التي تساهم في تنمية مبدأ التعايش. وحتى من رحم الله من الوالدين الذين حباهم الله حظا من الفهم والعلم، الذين يحاولون إذكاء مهارات أبنائهم وتنميتها، أصبحوا يلجؤون لتعليمهم عبر وضعية مشكلة، وتَمثُّل الأولاد لها، مع استدعاء الموارد، والتي للأسى والأسف كلها افتراضية، لنبحث عن الحلول وتنمية الشخصية. ثم نطلب منهم أن يساهموا في بناء المجتمع.