الآباء والأبناء، أية علاقة؟

قال الله تعالى في محكم كتابه: وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ ۚ أَفَبِٱلْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ. «سورة النحل، آية 72».
نفهمُ من الآيةِ الكريمةِ أن أبناءَنا فلذاتُ أكبادِنا نعمةٌ من نعم الله تعالى، وهم كما وصفهم عز وجل من طيبات الحياةِ الدنيا، فهم ثمرتها وزينتها. لهذا فبناءُ علاقة متينة معهم هي أولى أولويات الآباء وأكبر طموحاتِهم. إلا أن هذا البناءَ تعترضه عقباتٌ وتحدياتٌ شتى، ترهق كاهل الآباءِ وتضعهم أمام خيارات صعبة. فمعروف أن العلاقات داخل الأسرة متشابكة، وتكون أحيانا ناجحة ومستقرة ويعكر أحيانا أخرى صفوها الصعاب والمشكلات.
ومن ثم فإن الحديثَ في هذا الموضوع والبحثَ في قضـاياه، ووضـعَ الحلـولِ لمشكلاته، تزداد إليه الحاجةُ يوما بعد يوم، خاصة في ضوء تعقيدات الحياة وطغيان تيار المادة الجارف، لذا كان الإبحار في واقع هذه العلاقة واكتشاف حقائقها أمرا ضروريا وملحا. ولفحص هذا الواقع، سنقف بإذن الله على عتبة مظهرين اثنين هما: واقع البيئة الأسرية وإشكال العلاقة التي تجمع الآباء والأبناء.
من المعروف أهميةُ البيئةِ الأسرية في تحديد نوع العلاقة بين أفرادها، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مؤكدا على هذا الأمر: “إن أثرَ البيت لا يُنكر في تقويم الشخصية. وتتميز الخطوطُ الأولى لتصرف الطفلِ تقليدا لما يشاهدُه ولمن يعايشُهم. ولا جدال في أن الصغيرَ يرضع مع لبان أمه الكلمات التي يسمعها، والمناظر التي يشاهدها، كما أنه يتغذى بالعواطف التي يتبادلها مع أفراد أسرته” (1). وبالوقوف مع واقع البيئةِ الأسرية، نجد أنها تتأثر بعدة عوامل مهمة، والتي تشكل الحجَر الأساس في بناء شكل العلاقة، يمكن إجمالها في:
1. عامل الدين؛ لا يخفى على أحد ما وقع في تاريخ المسلمين من انحراف خطير الذي حول مجرى حياتِنا على جميع المستويات، والأسرةُ باعتبارها مؤسسة اجتماعية بامتياز، تأثرت بهذا التحول، وغاب عن أفرادها النظرةُ الشاملةُ لمفهوم الدين، وأن له أبعاد مختلفة تستوعب جوانبَ الإنسان والحياة. وبالنظر إلى واقع الأسر اليوم، نجد اهتمام بعض الآباءِ بناحية معينة من الدين يعتبرونَها الجانبَ الأهمَ فيه، وأنها تشكل عمقَه وجوهرَه. فمثلاً يركز بعض الآباء في تربية أبنائهم على شعائر الدين وعباداته فقط، كالصلاة والصيام، ويغفلون الجانبَ الروحي؛ وهو غرس الولاء المبكر في نفوسهم ووصله بميثاق النبوة. كما نجد نوع آخر من الوالدين اللذين يعتنيان بما يرضَعُ الطفل ويلبَس ويعطيان للأمور المادية الأولوية، لكنهما عن نشأته الإيمانية غافلان. وهذا مع الأسف واقعُ جل الأسر. وخلاصة القول إن حضورَ أو غيابَ هذا العمق، أي النظرةُ الشموليةُ للدين، لدى جيل الآباء وجيل الأبناء كفيل ببناء أو بزعزعة العلاقة بينهما.
2. عامل الأخلاق؛ ونقصد به مجموع المبادئ الخلقية والفضائل السلوكية التي يجب أن يتمتع بها أفراد الأسرة، وبالنظر إلى الواقع نستشف غيابَ هذه القيم، فاليومَ لا تكاد تجلس إلى أحد إلا ويشكو سلبيةَ سلوكِ أبنائه، ويخشى عليهم من هجمة الفساد وأهله، وأصبح الأبناء مصدر قلق لكثير من الأسر، ويمكن إجمال مظاهر السلبية لسلوك الأبناء من وجهة نظر الآباء في: العصيان والتمرد، الاستهتار والفوضى، التسيب واللامسؤولية.. وفي المقابل نجد كذلك شكوى الأبناء من سوء فهم آبائهم لهم ومن سوء تصرفاتهم؛ كالتسلط والشدة، الرقابة والمحاسبة، الإقصاء والإلغاء. ووجود هذه الأحكام سواءٌ عند جيل الآباء أو جيل الأبناء له تداعياتُه على إرساء العلاقة بينهما.
3. عامل التدبير؛ ونقصد به مجموعة من الترتيبات أو النظم أو القوانين التي تعتمدها الأسرة لتسهيل حياة أفرادها، وبدأ هذا المستوى يعرف هو الآخر تغيرات جذرية في السنوات الأخيرة، إذ تحولت الأسرة من نظام كان يحرص على احترام أفرادها لأوقات الأكل والنوم والعمل، إلى نظام غابت عنه هذه القيم، وهذا جاء نتيجةَ لاعتماد آلية التوقيت المستمر في مراكز العمل وفي المؤسسات التعليمية، فنجد أن الآباءَ يقضون معظم وقت النهار في العمل والأطفال كذلك في المدارس، وقد يمر اليوم والليلة ولا يروا بعضَهم بعضا. كما أن لكل فرد من الأسرة وقتُه الخاص به للأكل، لم يعد أفراد الأسرة يجتمعون على مائدة الطعام إلا نادرا. فكيف إذن يمكن بناء علاقة متينة قوية بين الآباء والأبناء في مثل هذه الظروف؟
4. عامل الانفتاح؛ ونقصد به انفتاحُ الأسرة على وسائل الإعلام التي أصبحت أحد المحركات الأساسية في عملية إنتاج الأفكار والقيم داخلها. فواقع الأسرة اليوم يشير إلى مدى تفاعلها مع هذه الوسائل، حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتها اليومية، وخاصة منها الإعلام الرقمي الذي أصبح شريكا للآباء في أبنائهم، إذ حل محلهم في تربية الأبناء واحتضانهم، وشريكا للأبناء في آبائهم حيث سرق منهم اهتمام ذويهم. فوسائل الإعلام هي أداة للتربية الشمولية والتعليم المستمر، ودنيا الإعلامِ كذلك زاخرةٌ بالأخبار والأحداث، سوقها لا يبور، ولها أذواق ترضي كل غرور. لكن مع الأسف الإعلامُ اليومَ متروكٌ للفوضى وللمبادرات الفنية غير الملتزمة، كما أن له جاذبية لا تقاوم، وفيه متعة لا تنتهي، لهذا يُقبِل عليها أفراد الأسرة بشغف، وهذا ما يدفعهم إلى الانكفاء على ذواتهم وانغلاقهم في عالمهم الخاص، لا مكان للغير فيه.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن كل هذه المظاهر ساهمت بشكل كبير في تشكل العلاقة بين جيل الآباء وجيل الأبناء. بحيث اتخذت أشكالا متنوعة ومختلفة، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله موضحا هذا الأمر: “شيطنة الجن، وشيطنة “الفن”، وشيطنة الإعلام، وأفلام الْهَوَس، والإباحية باسم الحرية، وتبرج النساء، وانحلال الأسرة، وذهاب الحياء، وغياب سلطة الأبوين، وهما يهودان أو ينصران، أو يشركان أو يمجسان. كل ذلك يتحـامل على إفساد محضن الخير. سرقت من الأبوين ذرياتهم الشوارع، وسرقهم التلفزيون، واغتالهم كل شيطان مريد” (2).
وهذا الواقع أفرز لنا أربعة أشكال للعلاقة التي تجمع بين الآباء والأبناء، وهي كالشكل التالي:
1. علاقة متوازنة؛ وهي علاقةٌ متبادلةٌ بين الآباء والأبناء، مبنية على الحب والحنان والرعاية. وبالرجوع إلى الواقع نجد أن هناك أسرا يسودها الانسجام التام، والتقدير المتبادل بين الوالدين وسائر الأبناء، ولا تعاني من أية مشكلات سلوكية بين أعضائها، الذين يشتركون جميعاً في الالتزام بالقيم التي تحافظ على بناء وتماسك الأسرة، وتستطيع هذه الأسر تذليل جميع المشاكل والتوترات الداخلية التي تجابههم بالحكمة والتعقل والاحترام العميق لمشاعر الجميع صغاراً وكباراً.
2. علاقة السيد بالعبد؛ وهي مبنية على تسلط الآباء على الأبناء، يتحكمون بشدة في حياة أبنائهم، ويستخدمون أسلوب فرض السيطرة عليهم دون أن يتركوا لهم أية مساحة للنقاش أو التعبير عن رأيهم، معتقدين أن آراءهم دائما هي الصحيحة، بحكم خبرتهم الكبيرة في الحياة، وبالنظر إلى الواقع نلاحظ وجود هوة بين الآباء والأبناء، تزداد مع الأيام وتتفاقم أكثر كلما تقدم الأبناء في السن، وربما تصل أوجها في سن المراهقة، خاصة لما تتميّز به هذه السن من إعلان واضح للتمرد على كل شيء ورغبة في التخلص من سيطرة الوالدين، والتفرد بشخصية مستقلة بعيدة عن كل التوجيهات والأوامر.
3. علاقة الأَمة بربتها؛ وهي مبنية على تعسف الأبناء مع الآباء أو معاملتهم بشكل سيئ، وهو أمر شائع ولكن يقل الإعلان عنه، ولم يتم بحثه بدرجة كافية. فكثيرًا ما يتعرض الوالدان لمستويات من التمرد والعصيان الطفولي، والذي عادةً ما يأخذ شكل الإساءة اللفظية، وعلو الصوت والصراخ، ويتجاوز النوبات الطفولية الطبيعية. وكذلك نجد بعض الأبناء يجبرون آباءهم على تلبية طلباتهم الكثيرة، وتكون ثانوية في كثير من الأحيان، دون مراعاة قدرتهم المادية. وهذا النوع من العلاقة أفرزه ضعف شخصية بعض الآباء والأمهات، وعدم قدرتهم على الحوار مع أبنائهم خاصة مع متطلبات العصر الموجودة عندهم.
4. علاقة الغربة؛ وما يلفت الانتباه في هذه العلاقة هو استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة في إيصال أية رسالة مهما كان نوعُها، حتى أصبح الأفراد غالبا لا يتواصلون مباشرة، وإنما يستخدمون الهاتفَ النقال. وأصبحت أدوات الاتصال الحديثة هي المسيطرةُ على الجو العائلي، بحيث أصبحت تسرق الكلام من كل أفراد العائلة، إذ كل واحد يغوص في عالمه الخاص. ونلاحظ كذلك أن الهاتف النقال أصبح بمعدل واحد لكل فرد، لصيق به لا يفارقه في حَله وترحاله، مكالمات ورنات لا تنتهي، رسائل قصيرة لا يتوقف عن كتابتها، وغيرها من الممارسات قد تؤثر سلبا على العلاقات الأسرية.
وخلاصة القول؛ علاقة الآباء بالأبناء هي أسمى العلاقات وأعظمها قدرا وأقواها رابطة، لذلك أحاطها الإسلام بسياج تشريعي ملزم يضمن لها سلامتها واستمراريتها وقوتها… لكن باستقراء الواقع نجد أن هذه العلاقة لا تسير في مسارها الصحيح، وقد فقدت الكثير من أسسها وضوابطها وإطارها الصحيح، لهذا لابد من دراسة هذا الواقع وتحليله تحليلا علميا لاكتشاف مواطن الخلل حتى نتمكن من تقوية هذه العلاقة.
(1) ياسين، عبد السلام، كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا، 46.
(2) ياسين، عبد السلام، سنة الله، ص 274.