أطفال على غير العادة

من سنن الله الكونية أن جعل عز وجل الإنجاب ثمرة لعلاقة زوجية تستمر بها الحياة جيلا بعد آخر، يقيم ركائز الاستخفاف ويصلح في الأرض ما دام يدب فيها. وانتظار مولود جديد في العادة هو فرحة للأسرة تبني من خلالها أحلاما مستقبلية لهذا الطفل، إلا أن الحلم قد تتغير معالمه مع بداية معرفة تطورات الجنين إن كان على غير عادة الأجنة، وأقصد بذلك حالات التشوه التي أصبحت تصيب العديد من المواليد.
قبل أن نتحدث عن أسباب التشوهات وما ينتج عنها، لابد من الحديث عن وقع الخبر على نفسية الأبوين، خاصة الأم التي تعاني بشكل طبيعي في جميع مراحل الحمل، وما ينجم عن ذلك من آثار بسبب التغيرات الهرمونية والإرهاق الجسدي، بالإضافة إلى إرهاق نفسي تتفاوت حدته من امرأة لأخرى، ومع معرفة ما يمر به حملها تزداد وتيرة المعاناة النفسية، وهنا ينقسم حال الوالدين بين قبول ورفض، لتبدأ عملية البحث عن حلول طبية، حيث أن بعض الدول الغربية تسمح بالتخلص من الأجنة الذين يعانون من هذه التشوهات خاصة إذا استعصى التدخل الطبي، لكن في عالمنا الإسلامي ما زال الأخذ والرد في مثل هذه النوازل، علما أن أبواب الاجتهاد لم تأخذ حقها المطلوب في زماننا هذا الذي يحتاج إلى اجتهاد جماعي تتكاثف فيه خبرات واختصاصات متعددة من أجل فتاوى تحقق قصد الشارع وتستجيب لفقه الواقع، ومع ذلك معظم المسلمين يميلون إلى الاحتفاظ بالأجنة من باب الرضا بقضاء الله وقدره، لكن هل يتحقق هذا الرضا حقيقة فتتجلى آثاره في علاقة الأبوين مع الطفل المنتظر، أم أنه استسلام لواقع لا مجال للفرار منه؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال أقف بداية مع ما سبق ذكره من أسباب ينتج عنها حالات التشوه، وهي متعددة ولها عوامل مختلفة، بعضها استطاع العلم الحديث الوصول إليه والبعض الآخر ما زالت أسبابه غامضة، ومن هذه التشوهات ما قد يكون سببا في عدم استمرار الحمل إما بالموت داخل الرحم أو بعد الولادة، والبعض الآخر يمكن أن يستمر، وبحسب درجات ومستويات التشوه قد يعيش الطفل إما بتدخل طبي أو بشكل أقرب إلى الطبيعي.
ومن العوامل التي قد ينجم عنها هذه التشوهات: التلوث الذي يحيط بالمرأة على جميع المستويات، وتدخل الإنسان الخطير في تغيير طبيعة ما يتناوله من مأكولات ومشروبات وإضافة المواد الكيماوية التي لها تأثير سلبي على جسم الإنسان ونموه الطبيعي، مما أدى إلى ظهور أمراض جديدة لا قبل لمناعة الإنسان على مقاومتها، وفي حالات كثيرة ينتج عن تعديل تركيبة الأغذية التي يستهلكها الإنسان وخاصة المرأة، وهو ما ينتج عنه انعكاسات خطيرة على الأجنة خاصة في مرحلة الحمل الأولى، وهنا يلجأ عدد من النساء إلى تناول حمض الفوليك كوصفة طبية تساعد على حماية الأجنة من التشوهات، علما أن معظم الأغذية التي خلقها الله تعالى تتوفر بشكل طبيعي على حمض الفوليك، وهنا نعرض لسؤال جوهري، كيف يؤدي هذا الحمض وظيفته مع تدخل الإنسان في النظام البيولوجي للأغذية المخصصة للاستهلاك البشري؟
بالتأكيد هناك تأثيرات سلبية يشهدها العالم نتيجة الحداثة المتغولة، وخضوع الاستهلاك الغذائي والدوائي للمنطق المادي الذي يسعى للربح السريع بغض النظر عن صحة الإنسان ومستقبله، ليبقى هو الضحية الأولى لهذا الجشع.
أمام هذه المعيقات والتحديات التي أصبح العالم يعيشها خوفا على جيل تهدده مخاطر العولمة التي لم تراعي حاجيات الإنسان وحقه في الوجود السليم، كيف نحمي أبناءنا من سوق تجردت من الإنسانية بل تستهلك الإنسان جنينا في بطن أمه، وطفلا على الأرض، وإن طال به العمر رجلا أو امرأة جعلت أجسادهم محضنا لأوبئة العالم وأمراضه المصنعة الخبيثة؟
الجواب بالتأكيد يحتاج إلى إعادة العالم نحو نسق أخلاقي وقيمي متكامل، تتكاثف لإنجاحه سواعد صادقة، تحتفي بإنسانية الإنسان وتعتبره رأس مال الحياة السعيدة بل شرط وجودها.
وأعود إلى بداية حديثنا، أمام واقع استقبال عدد من الآباء لتشوهات أبنائهم ما هو المطلوب؟
الرضا لا شك أمر واجب شرعا، لكن الرضا السلبي قد يكون انهزاما أمام إمكانية السعي نحو أسباب التغيير أو بعض منه، وقد ذكرت فيما سبق أن التشوه أو الإعاقة قد تكون جزئية وقد تطال جوانب متعددة، وفي كل حالة من هذه الحالات أو في معظمها عمل الوالدين على تحسين وضع طفلهما ترويضا وتعليما وأحيانا تدخلا جراحيا قد يؤتي أكله، والأهم من هذا وذاك الإقبال العاطفي الذي يشعر الطفل بأنه مرغوب فيه، لأن هذا الأمر يعتبر عاملا من عوامل استجابة الطفل للعلاج، يشترك الأب والأم معا في هذا السعي دون إفراط أو تفريط، غير أن نجاحهما في المهمة يستدعي دعمهما النفسي أولا لأنه ينعكس بدوره على حالة الطفل، لا يجب الشعور بالخجل منه بل الخروج به إلى العالم والافتخار به، يجب أن يصبح مصدر قوة للوالدين، ناهيك أنه باب من أبواب الجنة التي ما فاز بها إلا كل صابر محتسب احتساب السعداء بالعطاء وليس البؤساء بالقضاء.