دور المرأة في تحمل أعباء الجهاد مع رسول الله ﷺ

المرأة عديلة الرجل وشقيقته؛ هما في الخطاب واحد يستمعان وينصتان، ويبادران ويطبقان، ينجزان ويتنافسان، يتسابقان ويسارعان إلى مرضاة الله تعالى، وأحيانا يتدافعان ويتواجهان في صراع الحق مع الباطل.
هذا كان شأنهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ساهمت المرأة في الشأن العام في إطار الولاية التامة؛ وكان لها في مشروع التغيير نصيب وافر.
كان أول من أسلم مولاتنا خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، آوت ونصرت ودعت وواست وصبرت، حتى انتقلت إلى ربها راضية مرضية، وأول من استشهد في الإسلام؛ سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنها، واجهت صولة الكفر وجهل أبي جهل، وأسلمت النفس إلى بارئها رافضة الكفر متمسكة بدينها.
سورة من السور المدنية سميت بالمُمتحَنة أو المُمتحِنة أي المرأة المُمتحنَة، وهي تتحدث عن جملة من النساء؛ اللاتي آمنّ وأسلمن ولم يسلم أزواجهن، فاضطررن أن يهاجرن بدينهن وأن يخرجن من بلدهن، ويفارقن أهلهن في مكة متوجهات إلى المدينة، مهاجرات في سبيل الله، قاصدات الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الجماعة المؤمنة هناك، وفيهن نزل قول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن” (1).
لنا أن نتصور هاته الرحلة التي قطعتها هؤلاء المؤمنات بين مكة والمدينة؛ بوسائل المواصلات المعروفة في ذلك الوقت، وليس معهن رجال يحرسونهن؛ فررن من أزواجهن ومحارمهن من المشركين؛ هذه الهجرة ولاشك ضرب من الجهاد لا يقدر عليه إلا القليل من الرجال فما بالكم بالنساء.
أعمال الجهاد تحتاج إلى جهد بدني شاق لا يصلح للمرأة؛ ومع ذلك فقد وجدنا نماذج لصحابيات أبلين البلاء الحسن في ساحات الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترجم الإمام البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه باب “غزو النساء وقتالهن مع الرجال”، ذكر فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم (يعني أمه) وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما (يعني الخلاخل التي في سيقانهما) تنقزان القرب على متونهما (يعني على ظهورهما) ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها”، وروى مسلم عن ابن عباس: “كان يغزو بهن فيداوين الجرحى” (2). وقد ذكر ابن سعد في طبقاته في ترجمة أم عمارة الأنصارية عن عمر قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أُحد؛ إلا وأنا أراها تقاتل دوني” (3).
ويروي سيدنا أنس عن أمه أم سليم: “أخذت خنجرا يوم حُنين فلما سألها عن ذلك، قالت: إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه” (4).
وهذه صفية بنت عبد المطلب عمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قتلت يهوديا في غزوة الخندق جبُن عنه سيدنا حسان بن ثابت، ضربته بعمود في رأسه فقتلته؛ وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين.
وتروي الرُّبيِّع بنت معوذ: “كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم ونداويهم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة” (5). وذكر ابن إسحاق في قصة سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما أصيب في غزوة الخندق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد حتى أعوده من قريب”. وكانت امرأة تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين (6). وهي أول ممرضة في الإسلام وخيمتها هذه كانت أول مستشفى ميداني لعلاج جرحى الحرب وتمريضهم. وذكر البخاري في باب (غزو المرأة في البحر) حديث أنس في قصة أم حرام بنت ملحان قال: “دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنة ملحان فاتكأ عندها ثم ضحك، فقالت لِم تضحك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله مثلهم مثل الملوك على الأسِرّة، فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعلها منهم، ثم عاد فضحك فقالت له مثل ذلك، فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين ولست من الآخرين. قال أنس فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحر مع بنت قرضة (زوج معاوية) فلما قفلت راجعة من الغزو (غزو القسطنطينية عاصمة الروم)، ركبت دابتها فوقصت بها فسقطت عنها فماتت” (7)، أي طموح هذا؟! وأية همة هاته تعلقت بمعالي الأمور؟! وأعظم باستجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الهمة؛ لم يقل لها الزمي بيتك ولا تتطلعي إلى هذا الأمر الخطير، علما أن ركوب البحر لم يكن معروفا عند العرب وكان مخاطرة كبيرة، فالسفن المستخدمة كانت شراعية تهددها الرياح العاصفة، ويحيط بها الموج من كل مكان.
وروى مسلم عن أم عطية الأنصارية قالت: “غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى” (8).
هؤلاء هن خرّيجات المدرسة النبوية الشريفة، النماذج الكاملة من النساء، فإليهن ينبغي أن تشرئب أعناق المؤمنات اقتداءً وتعلماً (9)؛ هن شموس الهداية تشهد مواقفهن وأعمالهن رضي الله عنهن على المشاركة الفعلية في بناء صرح الأمة؛ تربّين على طلب معالي الأمور، يسامين إخوانهن الرجال في طلب ما عند الله؛ من خلال إزاحة الباطل من مواقعه ثم بناء الحق بصبر وجلَد وتحمل وطول نفَس. لقد نقلت التربية النبوية النساء المؤمنات من اللاشيئية إلى صانعات للمستقبل، محررات للإرادة علت هممهن إلى بلوغ الكمال التربوي والخلقي والعلمي ثم الجهادي فحققن المراد. رضي الله عنهن وأرضاهن.
الهوامش:
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(2) أخرجه مسلم، رقم 1812.
(3) رواه الواقدي في المغازي، ج 1، ص 237. وابن سعد في طبقاته، ج 8، ص 415.
(4) صحيح مسلم، رقم 1809.
(5) صحيح البخاري، الرقم 5679.
(6) ابن هشام، السيرة النبوية، ج 3، ص 250. والواقدي، المغازي، ج2، صص 510-511.
(7) صحيح البخاري، الرقم 2877.
(8) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب النساء الغازيات… الرقم 3484.
(9) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط 1، 1996، ج 2، ص 287.