“وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”

قضى ملك الملوك ألا نعبد إلا إياه، وأوصى بالوالدين إحسانا، وصية ترددت مرارا في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، موضحة سبب هذا الشكر الواجب نحوهما، والإحسان المقرون بهما، وخص الأم بالحظ الأوفر بسبب حجم المعاناة، وبيّن جل وعلا طرق البر بهما؛ إن بلغا – عندك – الكبر؛ دعوة رحيمة من رب رحيم كريم.
فالأبناء في اندفاعهم وتصارعهم مع عجلة الزمن محتاجون إلى استجاشة وجدانهم بقوة، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف.
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله (1).
وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء، 14)؛ وسام استحقاق، وفي نفس الوقت “الذكرى الحانية، وذكرى طفولة ضعيفة يرعاها الوالدان، وهم اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان… وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما، فرحمة الله أوسع، وعناية الله أجمل، وجناب الله أرحب، وهو الأقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء” (2).
كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا؛ همس في أذن الوالدين، وتنبيه لهما أن استحقاقهما لهذا الاهتمام والعناية إنما هو لما قدماه في شبابهما من تضحيات ونكران للذات، من أجل تربية الابن والبنت صغيرين ويافعين وشابين حتى يستقيما على جادة الفطرة ويشتد عودهما على طريق الصلاح ويروما سبيل الاكتفاء.
لا ريب أن الهداية نور يقذفه الله في قلب العبد، متى لاحت في نفسه بوادر الخير، ثم هو بعد ذلك تربية وتقويم وحفاظ على بذرة الخير في المولود.
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (الأحقاف، 15).
قال الرازي -رحمه الله- في تفسير الآية: “فإن قيل: فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه، فكيف يشكره على النعم التي أنعم بها على والديه؟ وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم… قلنا: كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه، فقد وصل منها أثر إليه، فلذلك وصاه الله تعالى أن يشكر ربه على الأمرين” (3).
وأيضا من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى لأن ذلك من أجلّ نعم الله على الوالد، كما قال إبراهيم عليه السلام: وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَام (إبراهيم، 35)… وتقدير الكلام في وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيَّتِي: هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم (4).
دعاء وتضرع إلى الله تعالى من جيل صالح لجيل قبله أدى كل منهما دوره المنوط به من الحفاظ على فطرة المولودين تحت وصايته، وعلى بذرة الخير فيهم، فطرة سليمة نقية، فأثمرت لنا رجالا ونساء أرجلهم ثابتة في الأرض وقلوبهم وعقولهم في السماء. أشجار مباركة ترجى منها ثمار طيبة.
دعاء تواصل ومحبة بين الأجيال الإيمانية يرضاه ويباركه رب العالمين، وفي الآخرة جزاء لما وفوا بحق الفطرة.
إن المعول عليه في التربية هو إنشاء بناء من المؤمنين الأقوياء، القادرين على حمل أمانة الاستخلاف في الأرض، مستمسكين بصفات الإيمان وبخصال المروءات، الحاملين أعباء الرسالة، والعالمين بقدرها، المتفاعلين بإيجابية مع زمانهم ومكانهم، المستخلفين في الأرض، الموعودين بالتمكين فيها.
وينقطع هذا التواصل الإيماني متى انتصب الآباء حاجزا بين الأبناء وبين مشكاة الوحي.
ويكون التواصل انقطاعا وانتكاسا، عندما يكون التقليد للآباء والأجداد أعمى، لا يقدر قدر الخطإ والصواب.
وقد يكون هذا الانقطاع ثوريا موازيا، ومعيارا في نظر الجيل الجديد للتقدم ونبذ العتيق، أو حين تفقد بوصلة الأبناء الوجهة الصحيحة (5)، ويصبحون عاجزين عن تحقيق العبودية لله في زمن كثرت فيه المضلات والمضلون.
نعوذ بالله وبه نستجير.
الإحالات:
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 5، ص 14.
(2) نفسه.
(3) فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج 14، ص 51.
(4) نفسه، ص 58.
(5) الإمام عبد السلام ياسين، كتاب العدل، ص 321 بتصرف .