وصايا لقمان الذهبية في التربية

خلق الله الإنسان لعبادته وكلفه بمهمة الاستخلاف في الأرض وحسن إعمارها، فهو عبد لله تعالى مكلف بإنشاء أسرة وبتربية الأجيال والخلف، مع ربطهم بخالقهم وتأديبهم وتهذيبهم.
من أجل تعميق فهم هذه المهمة المنوطة بكل إنسان؛ ذكرا كان أو أنثى، سنقف بإذن الله تعالى مع آيات عظيمة من سورة لقمان، آيات تنضح بحكم ومعان سامية هي عصارة ما يسمى بعلوم التربية.
فما هي الوصايا اللقمانية التي جاءت في هذه السورة الكريمة؟
وما هي المبادئ التربوية التي يمكننا استخلاصها من هذه الوصايا؟
سنتدبر معاني هذه السورة الكريمة من الآية 12 إلى الآية 19 للإجابة عن هذه التساؤلات الجوهرية.
يقول عز من قائل: ولَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
بدأ الله تبارك وتعالى في هذه الآية بالتعريف بلقمان ووصفه بالحكمة والصلاح، قال ابن كثير رحمه الله أن لقمان كان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة وحكمة عظيمة.
وقال وهب: تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة، أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم وحكمهم وقال خالد الربعي: كان لقمان عبدا حبشيا فدفع مولاه إليه شاة وقال: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها، فأتاه باللسان والقلب، ثم دفع إليه شاة أخرى، وقال: اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب، فسأله مولاه، فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
وقال صاحب روح البيان: كان عبدا كثير التفكير، حسن اليقين أحب الله فأحبه.
فصاحب الوصايا والمربي المثالي ذو حكمة بالغة وعقل راجح، هو أسوة وقدوة للمسلمين حتى تقوم الساعة، هو قدوة لكل مرب، لكل أم وأب يريد الإحسان والقيام بمهمة تنشئة جيل صالح مصلح، وهنا إشارة لطيفة لمبدإ التربية بالقدوة، فالطفل يتأثر كثيرا بأفعال وأقوال وصلاح والديه، ويمكن الحسم بأن صلاح الآباء ينفع الأبناء، باستثناء بعض الابتلاءات، فلقمان اتبع طريقة الإرشاد والتوجيه، بالتحبيب والزجر والتنفير والإقناع في تسع وصايا تجمع بين أصول العقيدة والشريعة والأخلاق.
وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أهمية مبدإ الحوار في التربية، فهو وسيلة راقية للتواصل وتبليغ الرسالة، فالأب يخاطب ابنه وينصحه، والإبن ينصت بهدوء وتدبر وتمعن.
الوصية المتعلقة بالعقيدة
الوصية الأولى: التوحيد
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان، 13).
إن أول ما يجب أن نرسخه في أذهان وقلوب أبنائنا هي الغاية من الخلق، ألا وهي توحيد العبادة لله والاستعانة به والتوكل عليه وطلب القرب منه.
هنا تحذير واضح من الوقوع في الذنب الذي لا يغتفر، ألا وهو الشرك بالله، الظلم الصارخ لأنه تسوية بين الخالق والمخلوق، يقول تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (النساء، 48).
وخاطب لقمان الحكيم ابنه قائلا: “يا بني”، بدأ بالرفق والتلطف والتودد للولد لتسهيل التواصل وفتح الأقفال ولفت انتباه المخاطب.
الوصايا المتعلقة بالعبادات والأعمال الصالحة
الوصية الثانية: البر بالوالدين
وجاء مباشرة بعد التوحيد، لقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ (لقمان، 14)، جاء في تفسير السعدي: لما أمر الله بالقيام بحقه، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال: “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ” أي: عهدنا إليه، وجعلناه وصية عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه “بِوَالِدَيْهِ” وقلنا له: “اشْكُرْ لِي” بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي. “وَلِوَالِدَيْكَ” بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل.
وصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه أن “إِلَيَّ الْمَصِيرُ” أي: سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك، وكلفك بهذه الحقوق، فيسألك: هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها، فيعاقبك العقاب الوبيل؟
وذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم، فقال: “حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ” أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، من حين يكون نطفة، من الوحم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد.
ثم “فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ”، وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها، أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد، مع شدة الحب، أن يؤكد على ولده، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟
وهنا مخاطبة القلب قبل العقل مع ضرورة ترتيب الأولويات في حياتنا وحياة أبنائنا.
الوصية الثالثة: إقامة الصلاة
قال تعالى: يا بني أقم الصلاة (لقمان: 14)، تعليم لأصول الأعمال الصالحة، فالصلاة عماد الدين وهي صلة بين العبد وربه وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال لي أبو هريرةَ: إذا أتيتَ أهلَ مصركَ فأخبرهم أني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أولُ ما يُحاسبُ به الرجلُ صلاتهُ المكتوبةَ، فإن صلُحتْ صلاتهُ، وإلا زيدَ فيها من تطوعهِ، ثم تقابلُ سائرُ الأعمالِ المفروضةِ كذلكَ” (شرح السنة للبغوي، الصفحة أو الرقم: 2/ 529. وهو حديث حسن).
فالصلاة أول ما يجب علينا أن نعلمه لأبنائنا، بعد تعريفهم بالله تعالى، بالتحبيب والإشراك والتأكيد والتكرار دون كلل أو ملل، لقوله تعالى: وَامُر أهلك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (طه، 132)، جاء في تفسير السعدي: أي: حث أهلك على الصلاة، وأزعجهم إليها من فرض ونفل. والأمر بالشيء، أمر بجميع ما لا يتم إلا به، فيكون أمرا بتعليمهم، ما يصلح الصلاة ويكملها ويفسدها.
“وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا” أي: على الصلاة بإقامتها، بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها، فإن ذلك مشق على النفس، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك، والصبر معها دائما، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به، كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم، وإذا ضيعها كان لما سواها أضيع.
الوصية الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهنا تأكيد على ضرورة تربية أبنائنا على حمل هم الأمة والسعي لإصلاح المجتمع وتقديم النصح وقول الحق وتغيير المنكر، يقول تعالى: وامر بالمعروف وانه عن المنكر، وهذا الفعل من أعظم القربات إلى الله عز وجل وهي مهمة الأنبياء والمرسلين، وهنا إشارة إلى ضرورة تربية أبنائنا، رجال المستقبل، على علو الهمة وقوة الشخصية الإيمانية ونبذ الأنانية والانزواء.
الوصية الخامسة: الصبر
يقول تعالى: واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، جاء في تفسير السعدي: ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: “وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ” الذي وعظ به لقمان ابنه “مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” أي: من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.
فالصبر هو سلاح المؤمن وزاده ليواصل مسيرة الحياة الشاقة والمتقلبة في رضى الله تعالى، لهذا وجب علينا أن نوطن أنفسنا وأبناءنا على الصبر والتصبر، لأنه مفتاح الفرج وسبب لنيل محبة الله، فالله يحب الصابرين والدنيا دار ابتلاء والتواء وامتحان واختبار لا ينجح فيه إلا أهل العزائم والصبروالإيمان.
الوصايا المتعلقة بالأخلاق والآداب في معاملة الناس
وهو آخر نوع من أنواع الوصايا، ويأتي كتتويج وقطف لثمار التوحيد والعبادات.
الوصيتان السادسة والسابعة: التواضع
هنا دعوة صريحة لنبذ وتجنب التكبر واحتقار الناس، وذلك بإعطاء مثال حي من الواقع للتوضيح والتنفير في نفس الوقت، يقول تعالى: ولَا تُصَاعرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْارْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
جاء في تفسير ابن كثير: وقوله: (ولا تصاعر خدك للناس) يقول: لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارا منك لهم، واستكبارا عليهم ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث: “ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله”.
وقال مالك: عن زيد بن أسلم: (ولا تصعر خدك للناس): لا تكلم وأنت معرض عنهم.
وقال ابن جرير: وأصل الصعر: داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها، حتى تُلفت أعناقها عن رؤوسها، فشبه به الرجل المتكبر ، ومنه قول عمرو بن حنى التغلبي:
وكنا إذا الجبار صعر خده ** أقمنا له من ميله فتقوم.
وقوله: (ولا تمش في الأرض مرحا) أي: جذلا متكبرا جبارا عنيدا، لا تفعل ذلك يبغضك الله، ولهذا قال: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) أي: مختال معجب في نفسه، فخور أي على غيره، وقال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (الإسراء، 37).
وعن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه، فقال: “إن الله لا يحب كل مختال فخور”. فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها، ويعجبني شراك نعلي، وعلاقة سوطي، فقال: “ليس ذلك الكبر، إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس” (رواه الطبراني).
فالكبر باب من أعظم أبواب الشر، فيه بطر الحق أي دفعه وغمط الناس أي احتقارهم، وبالتالي فالمتكبر يمكن أن يكذب ويشهد الزور ويظلم و…
وهنا إشارة قوية لقبح هذا الفعل، فلقمان الحكيم كرر لابنه نفس الفكرة، ولكن بطريقة أخرى، وهذا أسلوب راق في التربية والتنويع دفعا للملل والضجر.
وهنا أيضا نهي صريح عن عموم الكبر سواء في المشية أو غيرها، ونهي عن الفرح المفرط الذي يظهر فيه الترفع عن الناس، ونلاحظ أيضا أن لقمان اتبع أسلوب الإقناع والتبرير، لا تمش في الأرض مرحا لأن الله لا يحب هذا الفعل، وهذا ما ينقص الكثير من الآباء.
الوصية الثامنة: القصد
قال تعالى: واقصد في مشيك.
جاء في تفسير البغوي (اقصد في مشيك) أي: ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا. وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: يمشون على الأرض هونا (الفرقان، 63).
والقصد هو التوسط والاعتدال في جميع أمور حياتنا؛ في النوم والأكل والنفقة والعمل و… فيجب على الآباء والأبناء تنظيم أوقاتهم وأولوياتهم في هذه الحياة دون إفراط أو تفريط بإعطاء لكل ذي حق حقه.
وهنا يمكننا الحديث عن أسلوب إعطاء البديل في التربية، فلقمان أرشد ابنه للقصد في المشي مقابل المشي مرحا والمبالغة فيما لا ينفع، ومن القصد وضوح الهدف، فالغاية دائما وأبدا هي السعي الحثيث لإرضاء الله تعالى والتقرب إليه بالفرض والنفل.
الوصية التاسعة: الغض من الصوت
لقوله تعالى على لسان لقمان الحكيم: وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
جاء في تفسير البغوي: (واغضض من صوتك) انقص من صوتك. وقال مقاتل: اخفض صوتك (إن أنكر الأصوات) أقبح الأصوات (لصوت الحمير) أوله زفير وآخره شهيق، وهما صوت أهل النار.
وقال موسى بن أعين: سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) قال: صياح كل شيء تسبيح لله إلا الحمار.
وهنا ترغيب في الالتزام بالأدب في الحديث مع الإشارة إلى أهمية الثقة بالنفس، فالتكلم بصوت مرتفع جدا هو نوع من الضعف، لذلك يجب التثبت قبل الكلام وقوله بكل ثقة وهدوء وأدب.
والتشبيه بصوت الحمير هنا للتحذير والتنفير من ارتفاع الصوت مع التزويد بمعلومات مفيدة، وهنا إشارة لاستحباب توسيع معارف أبنائنا.
ختاما أؤكد أن عملية التربية هي مهمة عظيمة، ليست بالسهلة في جميع مراحل نمو الأبناء من الطفولة وصولا لسن الشباب ومرورا بالفتوة والمراهقة، فهي تنطلق من صلاح الآباء قدوة الأبناء، وترتكز على ربط الناشئة بالله تعالى محبة وتعظيما وتوحيدا، مع تلقينهم وصحبتهم وتحفيزهم على العمل الصالح وسائر العبادات وعلى رأسها بر الوالدين والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر، والحرص على تأديبهم وتوجيههم للتحلي بأحسن الأخلاق والسجايا من تواضع وقصد وأدب في الحديث. فاللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، والحمد لله رب العالمين.