مستنقع العالقات.. وتعود أوجاع الألم الدفين

في مدينة تستصرخ منذ زمن بعيد: وامعتصماه.. واصلاح الدين.. ولا زالت تبحث في قائمة أسماء المحررين الفاتحين، لعلها تجد فيهم من يسمع نداءها ويهب لنجدتها، كما هب معتصم زمانه ملبيا نداء الواجب والشهامة والعزة حين بلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه!
لم يتوان الرجل ولم يضرب الأسداس في الأخماس، بل أجاب على الفور: لبيك، لبيك، فهل يا ترى تسمع هذه المدينة نداء التلبية يوما..
مر عليها زمن طويل وهي على هاته الحال، تنادي وتصيح وتستغيث، إلى أن بح صوتها من كثرة الصراخ، فقررت أن تنسى أو تتناسى مصيبتها وما حل بها حين لم تجد لها ناصرا.. حاولت أن تتأقلم مع الواقع، بدأت تستقبل نساء من هنا وهناك، تسمع حكاياهن، فكل واحدة منهن تحمل معها حكاية معاناة مريرة، أحيين من جديد حكايات ألف ليلة وليلة..
كن يتناوبن على الحكي، لكن تحسب وأنت تستمع إليهن أن واحدة فقط هي التي تحكي، لكثرة ما تتشابه همومهن، ويتشابه صوتهن التراجيدي المختنق، تارة وسط عبرات تنسكب على الوجنتين حارقتين، والمتقطع تارة أخرى الممزوج بآهات الأنين.
نعم تعود الليالي الشهرزادية من جديد، لكن بطلتهن هذه المرة شهرزادات كثيرات، منهن من نفذ فيهن حكم شهريار الظالم فقضين نحبهن دهسا بالأرجل في المعابر الحدودية المزدحمة، أو موتا مجهولا في مكان لا يليق بإنسان كرمه الله أن يموت فيه، ومنهن من تنتظر غدا محفوفا بالموت من كل جانب وفي أية لحظة مع أمل ضئيل في النجاة.
تعود هذه الليالي مع اختلاف في الخيارات، فبطلة الليالي الأولى اختارت السير إلى هذا المصير بمحض إرادتها، معتمدة على ذكائها وفطنتها في محاولة تغييره، بينما نسوة مليلية لم يكن لهن من أمرهن خيار بل فرضه عليهن الفقر والحاجة فرضا.
في هذه المدينة المكلومة المدارية لجرحها، وسط مقبرة جلست النسوة بين الأموات يتساررن ويتحاكين، فوقع ما لم يكن في الحسبان..
تسمع المدينة أنين النسوة اللاتي كن يقاومن كل ليلة خوفهن منتظرات صياح الديك إيذانا بطلوع صبح آمن، وتدرك أنهن مثيلاتها في المحنة، تعلم أنهن اغتصبن كما اغتصبت هي من قبل، اغتصبن في عرضهن كما اغتصبن في أحلامهن وفي هويتهن وفي أنوثتهن حين دفعهن هذا الواقع المرير ليصبحن “حمالات” كما يحلو للبعض أن يسميهن.
تستيقظ الآلام والأحزان التي حاولت المدينة تناسيها لبعض الوقت، وتتذكر كيف استلبت في يوم من الأيام من أحضان وطنها الحبيب، فلا يربطها به الآن إلا موقع جغرافي تقبع فيه منتظرة الأمر والنهي من سالِبِها الإفرنج..
تردد قول الشاعر:
إلى أخت وراء السور مسبيه
يدنس طهرها المنصوب هولاكو
وعصبته التتاريه
هلا يا أخته مرحى
فماذا يقبل الأضحى
سوى قربان أمتنا، وحملتها البطولية [1].
تنظر إلى النسوة الجريحات الباكيات وتتساءل في استغراب: أقَدَرُ الأنثى من كل جنس أن تعيش الذل والهوان؟ أم هو انهيار للقيم والمبادئ التي يفقد الإنسان بفقدها إنسانيته ليتمرغ في وحل الدوابية؟ أم هو تَرَدٍّ وانحطاط شامل كان حتما أن يلحق الأنثى شظاه مدينة كانت أو امرأة؟
“ما طرأت هذه المآسي إلا لأن تلك القديمة المقيمة لم تجد لها حلا من صميم الفقه الإسلامي وعمل الحاكم الإسلامي” [2]، هكذا يشخص الرجل العارف بالله [3]، العارف بفقه الشرع وفقه الواقع أصل الداء.
مآس قديمة وأخرى طارئة تطوى في كم النسيان، وتلاك بدلها شعارات فضفاضة تتغنى بحقوق للمرأة لا وجود لها إلا كونها دروسا يحفظها المسؤولون لاستظهارها في الندوات والمؤتمرات ذات التخصص.
حال المرأة جزء لا يتجزأ من حال الأمة، ولا يمكن معالجته إلا في ظل معالجة شاملة لكل ما زج بها في مستنقع البؤس والفقر والتشرد اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا…
فإلى حين أن يجد المسؤولون حلا لكل هذه القضايا العالقة، هل سيهبون لنجدة العالقات وجبر ضررهن النفسي والمادي والمعنوي .. أم أن ليالي شهرزاداتنا لن تزداد إلا حلكة وسوادا؟؟؟
الهوامش:
[1] التناص في الشعر العربي المعاصر، ظاهر محمد الزواهرة، ص 142.
[2] تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، ج1، ص 54.
[3] هو الإمام المجدد عبد السلام باسين رحمه الله.