كيف يكون الولد قرة عين (2)

مقدمة
روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.
يتجلى لنا من هذا الحديث الشريف عظم مسؤولية الإنسان في هذه الأرض، فقد بعث مسؤولا عن تربية أولاده، وهم نتاج هذه التربية، فإن كانت حسنة كانوا له قرة عين في الدنيا وعملا صالحا ينتفع به في الآخرة، فلا ينقطع عمله بموته بل يدوم بدعاء الابن البار الصالح له.
لكننا نتساءل عن هذه التربية الصالحة المثمرة؛ على ماذا تعتمد؟ وما هي أسسها؟ وما هو النهج الذي يمكن أن نسير عليه حتى يكون أبناؤنا قرة أعيننا؟
الأسرة أساس التربية
إذا كان العمل الصالح هو نتيجة التربية الصالحة والتوفيق الإلهي، فالعمل الفاسد والتربية الفاسدة تتجلى في تخريج غثاء كغثاء السيل، ينشأ مع والدين مهملين ووسط منحل مفسد وشارع سائب ورفقة ضالة مضلة.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “ما يكون لكمالها العلمي (يقصد به الأمومة) والخلقي وتقواها إلا زينة عقيمة إن أفادتها إفادة فهي فائدة محدودة، ينقطع بعد الموت عملها إن لم تخلف ذرية صالحة، إن لم تساهم في بناء الأمة، إن لم توظف كمالها العلمي والخلقي والقلبي في صنع مستقبل أمتها، واكتفت بكونها معبرا لبروز الذرية، ومحطة لمرورها” (1).
“الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح” (2)، فبإصلاح البيئة الأسرية ينشأ الولد الصالح على حسن العادات، ويتعلم علما نافعا من أمه وأبيه وإخوته ليستعد للانطلاق والتعلم في المدرسة الجديدة؛ مدرسة الحياة.
أسس التربية المثمرة
“الغاية من التربية في دولة القرآن.. هي: إيقاظ قلب الإنسان وعقله بالعلم والإيمان ليكون عبدا لله” (3).
إن التربية المثمرة لا تكتمل ولا تزدهر ولا تؤتي أكلها إن خلت من كتاب ربها. إن أول ما يجب أن تربى عليه أجيالنا المسلمة: القرآن، وأول ما يجب أن يدخل في جوفها بعد الطعام والشراب هو القرآن، ليكون أول كلام يخاطبها، وأعز كتاب يقر في سويداء قلبها، يحصنها ويحميها، ليحيي نفسها ويلقح عقلها ويسعد قلبها.
ثم تأتي بعد ذلك السنة النبوية، التي هي بنت القرآن، لا يمكن فصلها عنه، وبها يكتمل التعليم الرباني المثمر ، قال الله تبارك وتعالى مخبرا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (النجم، 4).
لذا فمن آكد واجباتنا المسارعة في الصغر إلى تعليم أبنائنا القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة، ليكون القرآن الدستور والنبي القدوة والسراج المنير؛ يضيئ قلوبهم الصغيرة المتعطشة للإيمان والممتلئة بالخير، فتتفتح لهما العقول وتتنور وتتعلم لتتدرج في مقامات السلوك إلى الله باكرا.
ونظرا لما يعرف أعداء الدين من ثمار الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبة فقد هرعوا للتشكيك فيها، ونفي ثبوتها، متناسين أن اتباع الآثار النبوية هو أمر إلهي لأولي الألباب وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.. (النساء، 58)، فجاءت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد طاعة الله تعالى مباشرة، ولا يمكننا اتباع السنة النبوية إن كنا نجهلها ولا نلقنها لأبنائنا وفلذات أكبادنا.
وتثمر التربية الصالحة معرفة الله عز وجل قبل أن تتفتح المدارك الصغيرة لقرة العين لتتعلم وتنهل من العلوم الكونية.
الخاتمة
لقد تكالبت علينا الأمم وتداعت كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، حينما ابتعدنا عن شرعنا الحنيف، وتكاسلنا عن تلقينه أبناءنا منذ الصغر، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ..” (4). صدق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
لقد حذر نبينا الكريم من التكاثر الغثائي والتكثير الأرنبي، فالمؤمنة لها الحق والحرية في أن تنجب أو لا تنجب لكن عليها واجب أن لا تتسبب في الكثرة الغثائية، بينما غيرها يربي صقورا ونمورا.
فبناء الأمة المسلمة وإعداد جيل الخلافة يتطلب البناء من أساس وعلى أساس، عملية شاقة وميدانية؛ تتبع النشء من المهد وتنقي طريقه من الشوك وتصفي نبعه لكي لا يتكدر.
“ما البناءُ رقدةٌ بعد صحوة. وشعار وحماس. البناء ما ساهمتِ به أنتِ من وقتِك وصبرك وجهادكِ..” (5).
الهوامش:
(1) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 219.
(2) نفسه، ص 229.
(3) عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 151.
(4) جزء من حديث: عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». سنن أبي داود / 4297، مسند أحمد / 21890، مسند أبي داود الطيالسي / 1085.
(5) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 231.