قرة العين

كلنا يتمنى أن يرزقه الله ذرية صالحة؛ ذكورا وإناثا، ينفعه برهم في الدنيا ويصله دعاؤهم بعد الموت. وتبقى هذه أمنية دونها مراحل من الاستعداد والإعداد، قبله ومعه وبعده الكثير من الإقبال على الله والدعاء له أن يهب لنا من الذرية قرة عين.
ومن أهم الوسائل لتحقيق هذه الأمنية:
1- ربط علاقة الأبناء بالله منذ نعومة أظافرهم، وتحسيسهم برقابة الله حتى يشعروا بمعيته لهم، فيألفوا الانضباط في الأقوال والأفعال منذ الصغر. وهذا من هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).
ويحكي الإمام الغزالي قصة طريفة في هذا الشأن؛ “قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك، فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلبك بثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلته، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوما: يا سهل من كان الله معه وناظرا إليه وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية”. فما تُعُلِّمَ في الصغر واستقر في القلب يبقى تأثيره ونفعه على الفرد حياته كلها.
2- تحري الحلال في طعامهم وتعليمهم ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كخ كخ! ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)”، خاف صلى الله عليه على حفيده من أكل الحرام، وإن لم يكلف بعد لعلمه بتأثير الحرام على النفس.
وفي قصة إمام الحرمين ما يؤكد هذا؛ يحكى أنه تلجلج مرة في مجلس المناظرة فلما سئل عن السبب قال: إن أمي اشتغلت في طعام تطبخه لأبي، وأنا رضيع، فبكيت وكانت عندنا جارية مرضعة لجيراننا، فأرضعتني مصة أو مصتين، ودخل والدي، فأنكر ذلك، وقال: هذه الجارية ليست ملكنا، وليس لنا أن نتصرف في لبنها، وأصحابها لم يأذنوا في ذلك، وقلبني وفرَّغني، حتى لم يدع في باطني شيئا إلا أخرجه، وهذه اللجلجة من بقايا تلك الآثار” (1).
فأكل الحرام له آثار وعواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، فهو يمحق البركة ويمنع استجابة الدعاء ويُصيِّر إلى الهلكة والخسران نعوذ بالله من ذلك كله.
3- الإكثار من العمل الصالح؛ جاء في سورة الكهف أن الله حفظ للغلامين كنزهما لصلاح أبيهما وكان أبوهما صالحا.
كما أوصانا الله أن نتقيه ونخشاه في حياتنا ليحفظ لنا أبناءنا بعد موتنا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (النساء، 9).
وقد أثر عن أحد الصالحين أنه قال: “والله يا بني إني لأزيد في صلاتي ابتغاء صلاحك”.
4- الالتجاء إلى الله بالدعاء في كل وقت، جعلنا الدعاء هو آخر الوسائل ذكرا لأنه أهمها وآكدها، ولا يكون مستجابا إلا إذا أعَنَّاه وعززناه بما سبقه من الوسائل الأخرى، قال تعالى: إِنمَا يَتَقَبلَ اللهُ مِنَ الْمُتقِينَ (المائدة، 27) الذين يخشون ربهم بالغيب ويتحرون الطيب الحلال في مأكلهم (2) ويعبدون الله خوفا وطمعا.
ولنا الأسوة الحسنة في الأنبياء والصالحين؛ فمنهم من دعا الله بالصلاح لأبنائه قبل ولادتهم، فقال سيدنا زكرياء: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (مريم، 5 – 6) ومعنى رضيا أي مرضيا عند الله وعند الخلق.
ويصاحب الدعاء مسيرتهم في هذه الحياة الدنيا، فيدعو سيدنا إبراهيم ربه أن يجعله وأبناءه من المقيمين الصلاة: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (إبراهيم، 40). وكذلك دأب الصالحين من بعدهم، يصفهم الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان، 74).
فاللهم ربنا آتهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِهم عذاب النار، وأدخلهم الجنة مع الأبرار، يا عزيز يا غفار.
الهوامش:
(1) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، 5/168-169.
(2) قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلَني مستجاب الدعوة، فقال له النبيّ: (يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة).