قرة العين والإصلاح المنشود

يقول الله تعالى: وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكمْ سَكَنًا (النحل، 80)، فالبيت نعمة من نعم الله على عباده، يجد الإنسان فيه الطمأنينة والراحة والسكينة في خضم مشاكل الحياة. لهذه الاعتبارات لا بد من بناء العلاقات الأسرية على أسس متينة وقوية.
تكتسي العلاقة بين مكونات الأسرة أهمية بالغة في جلب الاستقرار والسعادة أو الشقاوة والبؤس، ولذلك أحاطها ديننا الحنيف بكبير العناية والرعاية، توجيها وإرشادا وتحذيرا، حتى تستقر تلكم العلاقة على أسس الحب والود والاحتضان والرعاية والاحترام والتوقير …
لتحقيق الغاية المنشودة وجب تمتين روابط الحب والود والتقدير بين مكونات جسد الأسرة، تحت ضوء أنوار الآية 74 من سورة الفرقان: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما. صدق الله العظيم.
إن من واجبات الأسرة المؤمنة تحقيق الاستقرار العاطفي، والراحة النفسية، والمودة، والمحبة، والرحمة، والسكن لكل مكوناتها حتى تكون منارا وإشعاع يغمر ويضيء ما حوله.
هذه أهداف ومقاصد يتمنى الإنسان أن يحققها من وراء بناء أسرته، ويتضح لنا من وراء هذه المقاصد النية التي يجب أن تتوفر لدينا ونحن نخطط ونبني، والتي يجب أن تكون نية تشارك وتعاون ومحبة وتحقيق الوفاق بين كل الأطراف، كي يستطيعوا تحقيق الأهداف التي اتفقوا عليها وسطروها في بداية المسير كشرط لتحقيق هذا الميثاق. وتحقيق هذه الشراكة تتطلب من كل واحد منهم معرفة ما له وما عليه، ومعرفة آثار هذه العلاقة من تكاليف وأوامر وحقوق وواجبات.
إلى أين المسير؟ ونحن في زمانٍ طريقنا مملوء بالحواجز، وقافلة بيوتنا تسير بمفردها! يُخطَّط لها ولا تُخطِّط، يراد لها ولا تملك الإرادة، مثقلة الكاهل بأزمات تنوء من حملها الجبال.
تسير أسرنا إلى فقدان محوريتها وفاعليتها تماما كما يخطط لنا ولها.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “إن من الظواهر البئيسة عند “الملتزمين” و”الملتزمات” فشل زيجاتهم فشلا ذريعا إلا من رحم ربك. ذلك أن الشاب والشابة يظنان أن مظاهر التدين هي المكرمة التي ما فوقها مكرمة. حتى إذا وُضعت مروءة الرجل ومروءة المرأة في امتحان التعامل اليومي انكشف الميدان عن رقاعة وعن خفة عقل وعن سائر ما هنالك من لؤم مرده إلى خسة المعدن أو لغياب التربية أو إليهما معا” (1).
وللأسف الشديد قد نجد:
بيتا خاليا من المشاعر والقُرب !
بيتا كل فرد فيه دولة مستقلة، منعزل عن الآخر، ومتصل بشخص آخر خارج هذا البيت، لا يعرفه ولا يقربه.
بيتا لا جلسات ولا حوارات فيه، لا مناقشات ولا مواساة.
هكذا بيوت العنكبوت، واهية.
الأب الذي كانت تجتمع حوله العائلة خفتت جاذبيته.
الأم التي كانت تلملم البيت بحنانها ورحمتها اضمحلت يعسوبيتها، كل ذلك في بيوتٍ أصبح الكل مشغول عن الكل.
أبناؤنا أصبحوا متسولين في وسائل التواصل؛ يتسولون كلمة إعجاب من هنا، ومديح مزيف من هناك. وتفاعل من ذاك وهذا وهذه. زمن أصبحنا نستجدي الحنان من الغريب، بعدما بخلنا به على القريب.
زوج أنثى تعلق على كل المنشورات بإعجاب واهتمام، وزوجها وأبناؤها بجانبها يترقبون منها كلمة إعجاب واقعية أو لمسة تقدير حانية فلا يجدون لذلك سبيلا.
زوج ذكر يوزع الملاطفات والحنان في كل الاتجاهات، وزوجته وأبناؤه بالقرب منه، ولكنهم لم يسمعوا عطفه ولا لطفه ولم يجدوا له لونا أو رائحة.
أم تراقب كل العالم في مواقع التواصل، لا يمر منشور إلا ووضعت بصمتها عليه، ولكنها لا تدري ماذا يوجد في بيتها، وهل لها بصمة في سكينته ومودته وصلاحه؟
أب يهتم بكل مشاكل العالم، ويحلل وينظر لكل أحداث الأسبوع، وهو لا يعلم ماذا يدور في بيته! ولا يستطيع تحليل الجفاف العاطفي والروحي في بيته.
أم يحزنها ذلك الشاب الذي كتب “إني حزين”، وهي لا تدري أن بنتها وابنها غارقان في الحزن والوحدة و… تتأثر لقصص وهمية يكتبها أناس وهميون وهي غافلة عما يجري داخل كيانها ومملكتها.
والدٌ يخطط لنصيحة شابة تمر بأزمة نفسية، وهو لا يهتم بابنته التي تتخبط في الأزمات.
لماذا هذا المسار المعوج إذن؟؟ لأننا نبحث عن رسالتنا خارج البيت.
نريد أن نؤدي رسالتنا خارج أسوار البيت مع الآخرين، مع البعيدين، مع الغرباء، مع من لا نعرفهم، وأهملنا اللبنة الأساس؛ الأسرة بكل مكوناتها.
ما الحل والعلاج؟
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “فمكان المرأة المؤمنة أما وبنتا وأختا، هو مكان الصدارة. صلاحها في نفسها وتأثيرها في الوسط الجماعي ابتداء من بيتها هو صلاح الأمة. المرأة الصالحة هي عماد الأمة، ليس في هذا أية مبالغة لأنها حافظة الغيب، حافظة الفطرة والأسرة التي يتآمر عليها إبليس وحزبه جميعا، فهي وحدها كفاء لهم وهي متعهدة الأنفس” (2).
وجب إذن أن نتيقن أن الرسالة الحقيقية هي التي تبدأ من البيت.
رسالتنا تبدأ من بيوتنا وفي بيوتنا ومع أهلنا.
ولنعلم أننا عندما نعمل على أداء رسالتنا في البيت قبل الشارع ستنتهي أكثر مشاكلنا.
رسالتنا مبتدؤها في بيوتنا وخبرها يشع على المجتمع.
ليس مطلوباً منا أن نصلح العالم كله، ولكن لو نظف كل واحد منا بيته لأصبح المجتمع كله نظيفا.
يقول سبحانه: هوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (الأعراف، 189).
القصد والغاية من خلق الله تعالى الأزواج ذكرا وأنثى هو تحقيق السكن والسكينة ممزوجتين بالمودة والرحمة، وبذلك يتحقق الاستقرار وتسود الطمأنينة داخل الكيان الأسري، فيهب كل من الزوجين إلى القيام بواجبه الإحساني والاستخلافي سواء بسواء فتتحقق بذلك السعادة الأبدية.
خلاصة
تعتبر الأسرة أهم مكون من مكونات المجتمع البشري وقلبه النابض، فإذا صلحت صلح المجتمع كله وإذا فسدت فسد المجتمع كله، فيها ينشأ الفرد وفيها تنطبع سلوكياته. كما أنها تكسب الطفل اتجاهاته، وتكون ميوله، وتميز شخصيته، فيكون لها الأثر البالغ في تقويم سلوكه وبناء شخصيته. وهنا تكمن أهمية ومحورية دور الأسرة في التربية. فكثير من المشاكل التي تواجهها أمتنا حاليا منبعها الأسرة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “أقوى ما تستقوي به الأمة متانة بناء الأسرة … الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح” (3).
حفظ الله بيوت أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جميعا من الأذى، وجمع شملنا على التقوى والصلاح، وأحسن عاقبتنا في الدنيا والآخرة.
الهوامش:
(1) عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبعة الخليج العربي – تطوان، سنة: 2005، الطبعة: 1، ص 282.
(2) نفسه، ص 275.
(3) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 2، ص 229.