قرة العين أولها رحمة وآخرها رحمة

من أعظم النعم التي أسبغها الله عز وجل على عباده نعمة الولد، نعمة يستكين لها الفؤاد وتطيب بها النفس، لكن وكما هو معلوم فالنعم محفوظة بالشكر: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (إبراهيم، 7).
ومن شكر نعمه عز وجل الحفاظ عليها وتحقيق غاياتها. وفي تحقيق الغاية من نعمة الولد، ليس هناك أعظم ولا أسمى من أن تقر به عينك في الدنيا والآخرة. ولهذه الغاية جعل الله عز وجل سبلا ومراق، وجعل الرحمة من أعظم هذه المراقي، حيث اعتبرها مفتاحا لكل خير، مغلاقا لكل شر، وذكر ذلك على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال في الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه” (أخرجه مسلم).
وعلى ضوء سيرته صلى الله عليه وسلم، سيتم تناول هذا الموضوع، فنستهله بعون الله بذكر تجليات الرحمة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الوقوف على بعض المحطات المشرقة من قلب بيته الشريف، لنغترف من معين رحمته التي فاقت كل وصف وتقدير، ونال بها فضل وشرف أعظم معلم وبشير.
1- تجليات الرحمة في شخص رسول الرحمة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قيل: يا رسول ادع على المشركين”، قال: “إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة” (رواه مسلم).
هكذا يذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف الغاية من بعثته، كما دلت على ذلك الآية الكريمة من قبل: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء، 107).
كان صلى الله عليه وسلم نبع الرحمة، تفيض من جوارحه لتشع ويتسع مداها فتشمل حتى الكافر، بل خصه الله تعالى بفيض عطائه، وجميل حلمه، فباتت رحمته لا تستثني حتى الحيوان والجماد. وما حن الجذع وبكى إلا اشتياقا للمسته الحانية الرحيمة صلى الله عليه وسلم. هو الرحمة المهداة، بها خفض جناحه للمؤمنين ولان لهم، قال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران، 159).
تألف نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم برحمته القلوب، تلطف وتعطف، لم يضجر ولم يتأفف؛ تناول الناس الأعرابي حديث العهد عندما بال في المسجد فمنعهم نبي الرحمة قائلا: “دعُوهُ فأهْريقُوا على بَوْلِهِ سَجْلَ ماءٍ أو ذَنُوبًا من ماءٍ فإنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَم تُبعَثُوا مُعَسِّرِينَ” (مسند أحمد، الصفحة أو الرقم 14/209، صحيح).
وترامت أنظار الصحابة إلى معاوية بن الحكم السلمي غضبا بعد تشميته لعاطس أثناء الصلاة، فجاء الرد الحكيم من نبي رحيم عليه الصلاة والسلام “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”، فقال معاوية: “فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كرهني، ولا ضربني، ولا شتمني”.
صلى الله عليك وسلم يا علم الهدى، غدت رحمتك وسيلة ناجعة للمعالجة والتعليم والإصلاح والتقويم؛ أناة وحلم، وغض للطرف، وحكمة بالغة فيها إقناع وإمتاع وإشباع.
وإذا كان هذا حال نبي الرحمة مع الأمة عموما، أفلا نستقي من هذه الرحمة ما نرحم به أنفسنا، وفلذات أكبادنا، ونلم به شعثنا، ونجبر به كسرنا.
2- قبسات من رحمته صلى الله عليه وسلم في بيت النبوة
بيت النبوة بيت النور ومهبط الوحي، وهو الملاذ، إذ نقتبس منه الكمال والجمال والجلال، سرت فيه الرحمة فأضفت بظلالها على كل من حوله، وسأكتفي بذكر موقفين له صلى الله عليه وسلم لنستشف مدى حكمته المتناهية في تلبية النداء، وإزاحة كل هم، وكل كدر وداء، فتسمو الأرواح، تتغذى القلوب لتنطلق نحو ربها محلقة في سماء الأوبة والتوبة والخلاص.
الموقف الأول: يروي لنا فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى الحسن والحسين رضي الله عنهما وهما يستمتعان بمداعبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لهما ويركبان على ظهره، فقال عمر: “نعم الفرس فرسكما”، فأردف رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ونعم الفارسان هما”.
يغدق المعصوم صلى الله عليه وسلم على حفيديه من رحمته حين يقبل على مشاركتهما اللعب بشغف، وفي هذا استشعار لأهمية العمل الذي يقوم به دون كلل أو ملل، وهو بذلك لا يحقق المتعة لحفيديه فحسب، بل يستمتع هو أيضا. عملية اللعب باتت تشاركية، تفاعلية، يحصل فيها الانسجام على أعلى مستوى، وفي هذا إظهار لكل مشاعر الحب والمودة، والتآلف والرحمة، ولنقس كل ذلك على أحوالنا مع أبنائنا، هل نرحمهم؟ هل نشاركهم اهتماماتهم؟ هل نشاركهم آمالهم وآلامهم؟ أم نظل بمنأى عن ذلك كله؟ نسأل الله السداد.
ثم إن حضور النبي صلى الله عليه وسلم، بين حفيديه كان هو ما لفت انتباه عمر رضي الله عنه حين قال: “نعم الفرس فرسكما”، لكن نبي الرحمة يلفت انتباه عمر رضي الله عنه إلى فروسية ريحانتيه وشجاعتهما. موقف تفيض فيه الرحمة والمحبة فيغذي مكامن القوة والعزة والمهابة، ويعزز الثقة بالنفس. كانت تلك إشارة لطيفة منه صلى الله عليه وسلم لأهمية التحفيز في بناء الشخصية؛ والملاحظ أن ذكر محاسن الأبناء، ومدحهم أمام الآخرين وذكر إنجازاتهم، قيم قد تغيب عن تربيتنا البتة، بل قد يحل محلها الزجر والعقاب والتأنيب والتجريح، دون مراعاة لحجم الأضرار النفسية التي قد تلحقها مثل هذه السلوكيات لأبنائنا، فالحرص على توجيههم من خلال سلطة الأبوة الصارمة والتي قد تقتضي الإلزام والتشديد عليهم، مع إقصاء المرونة والحوار والتقارب ومد الجسور، قد يحول الرحمة إلى عنف مستمر، والتبشير إلى تنفير، فنحصد نتائج أخطائنا ويكون الجزاء من جنس العمل.
الموقف الثاني: علمت فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها بحصول أبيها الكريم صلى الله عليه وسلم على غنائم، فلجأت إليه تسأله لها ولزوجها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه خادما بعد أن كلت من جهد العمل اليومي الشاق، وكان الجواب كافيا شافيا كالتالي: “ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما، فكبرا الله أربعا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم”.
كان هذا من منتهى رحمته صلى الله عليه وسلم بفاطمة الزهراء رضي الله عنها، إذ يحفظ لها أمر دينها ودنياها، وكان الرضا منها والقبول ينم عن فهم المراد بحيث وهبت زادا كفاها هم الدنيا منذ ذلك الحين، وكان لها ذخرا وملاذا في الآخرة.
وهذا منحى آخر يجب أن يشكل حيزا مهما من دائرة اهتمامنا أثناء تواصلنا مع أبنائنا، وذلك بإيقاظ الفطرة وتقويمها، ولن يتأتى ذلك إلا بحسن التوجيه الذي تراعى فيه كل مقومات بناء الشخصية المؤمنة القوية والفاعلة. فندرك آنذاك يقينا بأن روابط الحب والود والاحترام سعادة تمتد من الدنيا إلى الآخرة، وهذا دليل قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم تدركه ابنتاه فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة”.
غمرنا الله تعالى بوافر رحمته، وسدد خطانا بتوجيه محكم تكون فيه هذه الرحمة غاية ووسيلة، بحيث تتشربها فلذات أكبادنا، وتتجذر في نفوسهم قيمة وبركة البر بالوالدين، فيدركون معنى قوله عز وجل محبة وامتثالا: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء، 23 – 24).