شخصية الأبناء بين النفي والإثبات

التربية من أعظم واجبات الوالدين وأوكدها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (التحريم، 6).
يحيلنا الله تعالى في هذه الآية الكريمة على أحد الأنواع الثلاثة للتربية وهي التربية الوقائية؛ وقاية من النار بالتعليم والتأديب حثا على الفعل أو الترك.
التهمم بهذه الوقاية يجعل فئة من الوالدين، في أحيان كثيرة، خاصة من كانت منطلقاتهم مبنية على التجارب الذاتية فقط، تفرض حصارا جسديا وفكريا على الأبناء، وتتبنى مبدأ الرفض الدائم لمعظم متطلباتهم ورغباتهم، مما يجعلهم أكبر المساهمين في إنتاج نوعين من الشخصيات لا ثالث لهما:
أما الأولى فشخصية متمردة من الصعوبة التعامل معها في الصغر، لكن ليس بالأمر المستحيل إذ لا مستحيل معه سبحانه. وعند اشتداد العود يصبح التعامل أكثر إرهاقا للجهود واستنزافا للحيل. ذلك أنها وبتمردها المستمر تكون قد راكمت خبرات السنين، فصارت متفننة في استثارة مشاعر الغضب، متقنة للدوس على زرار العصبية، متوهمة أنها الرابحة في حرب طويلة كانت الخاسرة في إحدى جولاتها وقد حان أوان الاستنصار.
والأنكى أن يقتنع الوالدان بذلك فيستسلمان ويسلمان.
وأما الثانية؛ فشخصية متواكلة، نشأت على ألا تحرك الساكن إلا انصياعا للأوامر، شخصية باهتة المعالم، لا تعرف ما تريد. لا تثق في ما أودعه الله تعالى فيها من قدرات ولا في ما سخره لها من خدام في هذا الكون الفسيح.
يتوجس الوالدان الخيفة لحالها بعد طول اطمئنان، فقد اكتشفا متأخرين عجزها عن حماية نفسها والدفاع عنها أمام تداعيات الأيام. لكن هل أدركا أن أسلوب تربيتهما هو السبب الرئيس في ذلك؟ وهل هما مستعدان لتغيير ما بهما أولا؟
من الممارسات المجانبة للصواب أيضا، تربية تقوم على أساس الوقاية الواهمة من الإحساس بالتعب والحرمان بتقييد الحرية والتسلط.
تجد الوالدين من هذه الفئة يطلقان لأبنائهما الحبل على الغارب، متعذرين في ذلك بأنهما من جيل غير الجيل وما جرى عليهما أبدا لن يجري على أبنائهما، منشئين جيلا مدللا مستهترا بكيانه ومستقبله، ناهيك عن مستقبل غيره.
جيل ألف الراحة حين باغتته المشقة.
يقول ابن القيم رحمه الله: “فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى؛ فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبَل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه؛ فأضاعوهم صغاراً… إلى أن قال: “وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، وهو بذلك يزعم أنه يكرمه وقد أهانه، ويرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفَوَّت على ولده حظه في الدنيا والآخرة … إلى أن قال رحمه الله: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء” (1).
ومن أفسد العلاقة بينه وبين ربه فهو لغيرها أفسد.
بين أولئك وهؤلاء نجد صنفا آخر؛ صنف مذبذب، يرفض تارة ويستجيب أخرى دون نواظم أو أسس، الرفض والقبول عنده رهين بحالة مزاجه أو بدرجة إلحاح وضغط الأبناء عليه، فيشب النشء وقد ترسخت لديه القناعة بجدوى ونجاعة التذمر والصراخ في تحقيق المطالب، هدفه الأوحد أن ينال المراد.
فما السبيل لتحقيق التوازن في ذلك كله؟
كلمة “لا” علم بها الله رسوله الكريم وعباده الصالحين في غير ما موضع من القرآن الكريم، تحريما؛ كقوله عز وجل: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة وَسَاءَ سَبِيلًا (الإسراء، 32).
أو نهيا؛ كما جاء في قوله سبحانه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (طه، 131).
أو تأديبا؛ مثل ما جاءت به الآية الكريمة على لسان سيدنا لقمان: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍۢ فَخُورٍۢ (لقمان، 18).
أو إرشادا؛ كقوله سبحانه وتعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (المائدة،101).
من المفارقات الغريبة أن يسن الله تعالى لعباده الراشدين المميزين ضوابط وقوانين، تنظم حياتهم وتساعدهم على تحقيق المطلوب منهم، ولا ينسجون على شاكلتها في تنشئة خلفائهم، وإن فعلوا فقرارات جافة دون تودد كذاك الذي كان منه سبحانه وهو الغني.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كخ، كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة” متفق عليه (2).
إنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يربي ولده برفق، فلا ينهره ولا يزجره، يلامس قلبه بالملاطفة، ويقنع عقله بشرف الانتساب للآل الطاهرين.
منع بدون قسوة، تودد يظهر ثبات المحبة رغم رفض السلوك.
إذن .. فمن هنا الطريق!
(1) كتاب تحفة المودود بأحكام المولود. ص: 242/229.
(2) رواه البخاري في كتاب الزكاة.