درر الحبيب المصطفى ﷺ في احتضان الأطفال

الإبحار في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤية دقائق حياته وأسلوب معاملته مع أبنائه وأحفاده وأبناء غيره أمر مشوق للغاية، فكيف إذا احتسبنا فيه الأجر والمثوبة. سنعود قرونا خلت ونقلب صفحات مضت، نقرأ فيها ونتأمل سطورها، ونقوم بكشف درر الحبيب المصطفى في احتضان الأطفال عبر الحروف والكلمات. سنلتمس سنته ونسمع حديثه، نستلهم الدروس والعبر ونستنير بالقول والفعل.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال الأب الحنون العطوف، الرحيم بأولاده. كان عليه الصلاة والسلام محبا ودودا، لا مع أبنائه فحسب ولكن مع أبناء المسلمين كافة. فكان يعاملهم معاملة كلها رحمة ورفق. وكان يحث آباءهم على التلطف معهم، وينهاهم عن قسوة المشاعر وجمود العاطفة، فيعطي من نفسه القدوة حتى يصحح المفاهيم الخاطئة، ويرسي جذور الرحمة والرفق. فكان صلى الله عليه وسلم يحمل الصبيان ويقبّلهم، ويعترض طريقهم ويمازحهم. ورسم لنا الحبيب المصطفى أبهى الصور للأب الحنون والجد العطوف، وضرب لنا أروع مثال في شكل العلاقة الأبوية.
لمسات حانية
إن الطريق الأيسر إلى قلوب الأبناء هو حسن رعايتهم وملاطفتهم، ومنحهم المزيد من الحب والحنان والاهتمام، وهذا ما قدمه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لأبنائه وبناته وحفدته. فكان صلى الله عليه وسلم يترجم مشاعر حبهم إلى لمسات حانية، تلامس القلوب وتملؤها شغفا وشوقا.
حب لا حد له
عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: “خرجت مع النبي وقد دعينا إلى طعام، فإذا الحسين بن علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفرّ ها هنا ويفرّ ها هنا، ورسول الله يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: حسين مني وأنا من حسين” (رواه الإمام أحمد وابن ماجه والبخاري). هذه العاطفة المليئة بالحب والحنان لم تشغل النبي صلى الله عليه وسلم عنها زحمة الواجبات وكثرة الأعباء، فلكل وقته، ولكل حقه في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، فاللغة التي يفهمها الطفل هي لغة الحب التي تترجمها القبلة والحضن.
حنان لا نظير له
يحكي لنا أنس بن مالك عن حنو النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم يقول: “ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله، كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه لَيُدّخَنُ (يُقالُ: أَدخنَتِ النَّارُ البيتَ، أي: مَلأَتْه دُخانًا)، وكان ظئره (مرضعته ويطلق على زوجها) قَيِّنًا (حدّادا)، فيأخذه فيقبِّله، ثم يرجع” (صحيح مسلم). ولما توفيت زينب رضي الله عنها بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وبقيت ابنتها الصغيرة أمامة بنت أبي العاص يتيمة، حن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأخذها معه إلى المسجد في بعض الأحيان، ويحملها وهو في الصلاة، وعندما يسجد يضعها على الأرض، ثمّ يحملها على كتفه عندما يقوم. غمرها صلى الله عليه وسلم بجميل حنوه وواسع عطفه حتى يملأ قلبها الصغير حبا وحنانا، إيمانا منه أن هذه المشاعر هي الدواء لكل الجراح.
رفق لا مثيل له
روى عبد الله بن شداد عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب أحد سبطيه الحسن أو الحسين إلى المسجد في إحدى الصلوات، فوضعه على الأرض، وكبر للصلاة، ولما سجد أطال السجود، فرفع شداد رأسه فوجد الطفل على ظهر النبي عليه الصلاة والسلام وهو ساجد، فعاد وأكمل سجوده، ولما انتهت الصلاة قال الناس: “يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته” (رواه أحمد والنسائي). هذا قلب النبي وهذه رحمته بالصغار. لم يخاصم، ولم يرفع صوته على الصبي الذي صعد ظهره وهو يصلي، وإنما انتظره وأطال السجود، وانتظر حتى لبى حاجته من اللعب.
لطف لا قبيل له
رغم اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم بأمور الجهاد والدعوة والعبادة وأمور الناس إلا أنه كان يجد الوقت للعب مع أسباطه وممازحتهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله، ورسول الله يقول: (ارقه ارقه)، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله، ثم قال رسول الله: (افتح فاك)، ثم قبله، ثم قال: (اللهم أحبه فإني أحبّه)” (رواه البخاري). كما كان صلى الله عليه وسلم يلاطف أطفال الصحابة، ويدخل السرور عليهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: “كان لي أخ يقال له أبو عمير، كان إذا جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا عمير، ما فعل النُغير (طائر صغير)“ (رواه البخاري). يسأل الطفل عن طائره وهو صلى الله عليه وسلم في علو منزلته وعظم مسؤولياته، فيعلمنا أن الاهتمام بالأطفال هو السبيل إلى زرع الثقة في نفوسهم وبناء قدراتهم.
ومضات تربوية
لقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليم الأطفال أمور دينهم وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وترسيخها في نفوسهم، وتعزيزها في أقوالهم وأفعالهم. وكان صلى الله عليهم يقوم بهذه التربية بلطف وتأنٍ، وبلغة بسيطة يفهمها الأطفال.
رسول الله يعلّم الدين للأطفال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى دائما إلى تعليم الدين للأطفال ويحثهم على العلم والمعرفة، فقد اصطحب يوما عبد الله بن عباس وقال له: “يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف” (رواه الترمذي). وهذا مثال حي على التنشئة الإسلامية الفريدة للأجيال المؤمنة، بما يحتويه هذا المثال على وصايا عظيمة وقواعد مهمة لا غنى للمسلم عنها.
رسول الله يعلّم الآداب والذوق للأطفال
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الأطفال إلى السلوكيات الحسنة والآداب الرفيعة، فقال لأنس رضي الله عنه: “يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك” (سنن الترمذي). ولقد حرص صلى الله عليه وسلم على تعليم الأطفال أساسيات هذه الآداب، وتلقينهم كل ما ينفعهم، ويقوي أجسادهم، حتى طريقة الأكل والشرب وغير ذلك، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: “كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: “يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك”“ (رواه البخاري). تهذيب رقيق من سيد الخلق ليربي الأطفال على الذوق والكياسة.
رسول الله ينمي قدرات الأطفال
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة تشبه المسلم أو كالرجل المسلم، لا يسقط ورقها، وتؤتي أكلها كل حين، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. فلما قمنا، قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تتكلم؟ قال: لم أركما تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا” (أخرجه البخاري). وهذه صورة بهية لإشراك الأطفال في أمور الكبار ليتعلموا وينضجوا، وعدم إشعارهم ببساطة عقولهم، وقلة إدراكهم، بل الدفع بهم لتنمية قدراتهم ومؤهلاتهم.
رسول الله يعزز الثقة لدى الأطفال
حرص صلى الله عليه وسلم على غرس معاني الثقة والاعتزاز بالذات في الأطفال منذ صغرهم، فكان يعطي الأطفال جرعات متدرجة من تلك المعاني عبر المواقف المختلفة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتِيَ بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتلَّه (وضعه) في يده رسول الله” (رواه البخاري). لقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرين معا؛ راعى حق الطفل واستأذنه، وراعى حق الكبار فطلب من الصغير أن يتنازل لهم، فلما أصر الطفل على موقفه، لم يعاتبه أو يعنفه، بل أعطاه حقه. وفي ذلك إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بالاهتمام بالطفل، وإشعاره بقيمته، وتعويده الشجاعة وإبداء رأيه في أدب، وتأهيله لمعرفة حقه والمطالبة به.
وختاما
هذه بعض ملامح الهدي النبوي في تعامله مع الأطفال، والتي لا يمكن حصرها أو عدها، فكان لهذه التربية الأثر الكبير في تنشئة هذا الجيل الذي قاد العالم بأسره، وكتب الله على يديه النصر والتمكين. لهذا وجب على الآباء الاقتداء به صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (الأحزاب، 21).