خلقوا لزمان غير زمانكم

كتبت ابنتي بوحا جميلا صادقا، جعلتني أستمع إليه وكلي آذان صاغية، لأقف مع ذاتي وقفات متأنية،
فقالت:
أنا فتاة شابة يافعة، نشأت في أسرة ملتزمة محافظة. منذ نعومة أظفاري، وأنا أحب الموسيقى بألحانها الشجية، ونغماتها الهادئة التي كانت تأسر قلبي الصغير، كلما مر على مسامعي صوت كمان حزين أو ذبذبات قيثارة عذبة أخالها تداعب أوتار روحي البريئة وخلجات وجداني الفتي. ولكن نشأتي بين أحضان هذه الأسرة المتدينة وحرص والديّ على تنشئتي تنشئة “إسلامية” كان دائما ما يجعلني أتساءل عن السبيل الموصل لتحقيق رغبتي في تعلم الموسيقى، والتعرف على آلاتها الوترية وخصوصا القيثارة.
كانت أمي كثيرا ما تحاول أن تشغلني في وقت فراغي بهواية مفيدة، علني أغير بها بعضا من رتابة يومي وليلتي. إلا أنها لم تهتد إلى بغيتي؛ حبي لقيثارتي.
لم تكن تألو جهدا في رعايتي، وتربيتي التربية السليمة والمتوازنة، في واقع مرير تقض أزماته مضجعها ومضجع كل أب وأم متطلعين إلى مستقبل واعد لأبنائهما في الدنيا، ومآل يرضى عنه المولى، وهذا ما كان يجعلها كثيرة القلق سريعة الغضب، وربما كان سبب صراخها كلما قصرت في واجباتي التعلمية والتعبدية، أو استهترت بـأشياء تعتقد أنها ضرورية لخصوصية تكويني الفطري، ولا تستقيم حياتي المستقبلية إلا بها.
كنت أراها كثيرة الانشغال – بالإضافة إلى العمل، والقيام بأعمال البيت – بقضايا وأحداث لا تترك لها وقتا، ولو يسيرا، لمجالستي ومعرفة ما يجول في خلدي من رغبات وأحلام صغيرة، طالما تمنيت أن تشاركني في بنائها، وتحفزني على بلوغ مرادي منها، وكان حلم القيثارة أكثرها إلحاحا على مخيلتي. بل كانت تتجاهل بعضا من رغباتي، ولا تعجبها اختياراتي، منتقدة معظم اهتماماتي، تجبرني قسرا على تقبل جميع آرائها، ومشاركتي إياها لقناعاتها، وكأنها تريدني أن أكون نسخة مصغرة منها.
لم تكن تستهويني تلك القضايا التي كانت تؤمن بها، وتستميت في الدفاع عنها، وتسخر في سبيل نشرها بين بنات جنسها كل ما أوتيت من جهد ووقت، وغال ونفيس.
فكان لي الحظ الأوفر من هذا التسخير، بحيث كانت تحاول استمالتي لأدور في فلك قضايا اشتغالها، ولأكون لها سندا في حاضر أيامها وخلفا في قابلها، وتضمن بذلك انخراطي الفعلي في مشروعها. وقد كنت لأفعل لو أنها فسحت لي مجالا متسعا أبرز فيه قدراتي ومواهبي، بطريقتي الخاصة التي أراها تخدم هذا المشروع، مسترشدة بثوابت نؤمن – كلتانا – بضرورة الالتزام بها، معبئة من هن في مثل سني وحيرتي.
أعلم علم اليقين أن أمي ما كانت لتغفل أنني خلقت لزمان غير زمانها، وهي التي سارعت إلى تلبية رغبتي الدفينة في احتضان قيثارة .. والتحاقي بالمعهد الموسيقي الذي كنت أراه حلما بعيد المنال، ما دام لا يوجد حرج في ذلك من الناحية الشرعية.
لكن حبها لي وحرصها الشديد على سلامة سريرتي، والتهمم بشؤون آخرتي، جعلوا طريقة تعاملها معي تقف حاجزا منيعا بيني وبين تفهمها لي كما أسلفت ذكره، وهي معذورة في ذلك، أو لم تقل العرب قديما: “ومن الحب ما قتل…”.
إن العلم بفكرة لا يكفي، إن لم يثمر سلوكا عمليا، ذلك أن التحدي الأصعب يكمن في الممارسة، والمداومة عليها، لذلك نجد في كتاب الله تعالى حثا وتشجيعا على العمل في غير ما موضع، يقول سبحانه وتعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون (التوبة، 105).