تربية الأبناء، نظام متكامل

وضع الإسلام نظاما متكاملا لتنشئة الأبناء وتربيتهم بما يكفي لتوفير احتياجاتهم ومتطلباتهم، في منظومة رشيدة نابعة من حرصه على العلاقات الأسرية وأهمية الفرد المسلم في المجتمع. وقد وضع نبينا صلى الله عليه وسلم قاعدة أساسية لتربية الأطفال حددها في قوله: “الولد سيد سبع سنين وعبد سبع سنين ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لأحدى وعشرين، وإلا فاضرب على جنبه فقد أعذرت إلى الله تعالى”. ونفهم من الحديث الشريف أن هناك ركائز أساسية لابد أن يمر بها الآباء في تربيتهم لأبنائهم، نذكر منها:
تصحيح النية
التربية عبادة، والعبادة تتطلب النية الصادقة المتصلة بالله، ما يعين العبد ويوفقه إلى حسن تربية الولد. فعلى الولدين أن يحذرا أن يعتمدا على نفسيهما وقوة شخصيتهما، وينسيا التوكل على خالقهما. فليس عليهما إلا بذل السبب والتوكل على الله تعالى، إذ كم من قوي للشخصية عالم بالمهارات التربوية وُكل إلى نفسه فخذل عن تربية أبنائه تربية صحيحة، وكم من صحيح نية أصلح له الله ولده ولو بعد حين. ومن الخطأ أن ينوي الآباء بتربية أبنائهما مدح الناس لهما، أو أنهما يربيانهم لينفعهما في المستقبل لا لوجه الله. قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه” (1).
الدعاء والتضرع لله
للدعاء أثر فعال وإيجابي، فالله سبحانه وتعالى لا يرد أحدا من عباده خائبا، ولا يغلق في وجهه أبواب رحمته، ونظرا لما للدعاء من أثر عظيم في صلاح الأبناء، وجدنا خير خلق الله تعالى وصفوتهم الأنبياء يسألون ربهم ويلحون عليه سبحانه أن يصلح لهم ذرياتهم، حتى إنهم دعوا الله تعالى من أجلهم قبل أن يولدوا؛ فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يطلب من الله أن يهبه أبناء صالحين مصلحين فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. والدعاء عبادة روحية وصلة بين العبد وربه، فما مس الإنسان سقم وما ابتلي بمصيبة أو أثقل بكربة إلا وكان الدعاء والتضرع للخالق علاج سقمه ومنفس كربته، وكيف لا والله تعالى القائل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (غافر، 60).
التعليم والتلقين
يبدأ التعليم للطفل من أول خروجه من بطن أمه إلى هذه الحياة؛ لأنه من المستحب أن يسمع ما يطرد الشيطان عنه، وأن يطرق سمعه كلام طيب. وقد ورد هذا في الحديث حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذن الحسن بن علي رضي الله عنه عند ولادته. ثم على والدي الطفل عندما يبلغ سن التعليم أن يلقناه (لا إله إلا الله)، ويغرسان حب الله ورسوله في قلبه، ويعلمانه كل ما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة. ويتعين على الوالدين مواصلة تعليم الطفل وتربيته بحسب ما تقتضيه مراحل نموه، فيُعلَّمانه كل ما ينفعه، ويقوي جسده. وكان عليه الصلاة والسلام يهتم بالأطفال، ويعتني بهم، ويعلمهم الأدب حتى طريقة الأكل والشرب وغير ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة عندما رآه يأكل وتطيش يده في الصحفة: “يا غُلام سمِّ الله، وكُلْ بِيَمينكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ” (2).
التعويد والتكرار
الأصل في تربية الولد هو التعليم والتلقين، ولكن هذا الأسلوب يعتريه نقص لأن من طبيعة الإنسان النسيان والغفلة. ولتكميل هذا النقص، هناك أسلوب آخر تابع وهو طريقة التعويد والتكرار، وكأن التلقين جانب نظري علمي والتعويد جانب عملي تطبيقي. ومعنى التعويد أن يدرب الطفل على فعل أشياء وقول أخرى حتى يعتادها أو يحفظها. ومن الأشياء التي تتلقى بالتعويد والتكرار كثير من الآداب العملية، ومنها الأذكار اليومية المأثورة؛ كأذكار الصباح والمساء، ومنها آداب التعامل مع الناس؛ كإفشاء السلام، ومنها أيضا بعض العبادات التي لا بد من ترويض الولد عليها حتى تؤلف. ولكي نعود الطفل على العبادات والعادات الحسنة يجب أن نبذل الجهود المختلفة ليتم تكرار الأعمال والمواظبة عليها بالترغيب والترهيب والقدوة والمتابعة وغيرها من الوسائل التربوية. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: “حافظوا على أولادكم في الصلاة وعلموهم الخير فإنما الخير عادة” (3).
القصص الهادف
تعتبر القصة من الطرق الناجحة في التربية، لأن الإنسان عامة والطفل خاصة يميل بفطرته إلى استماعها ومتابعتها، ولأن عنصر التشويق حاضر فيها من غير تكلف، فهي تدعو إلى الانتباه أكثر مما يدعو إليه التعليم المجرد، ولأنها ترسخ في الذهن من غير تكرار فتبقى السنوات الطوال، حتى إنك ترى الناس يتوارثون هذا القصص أبا عن جد، ولأن فيها الجانب العملي التطبيقي المصدق للمُثُل النظرية، ولأن فيها اقترابا عاطفيا بين الأبناء والآباء، حيث يجد الولد عطف الأبوة وحنان الأمومة.
الترغيب والترهيب
إن الترغيب والترهيب منهج تربوي قرآني، يجب على الوالدين اعتماده، خاصة إذا كان الأمر المراد توضيحه أمرا شرعيا، وردت فيه نصوص صريحة ترغب فيه أو ترهب منه. وبمثل هذا الأسلوب ينشأ الطفل على محبة الله تعالى والحرص على طاعته، ويغرس في قلبه الخشية منه والرجاء فيه سبحانه وتعالى، ولا أجدى من هذا الأسلوب في بعث الفضائل ووأد الرذائل.
القدوة الحسنة
من أساليب التربوية الفعالة التي دل عليها القرآن والسنة: القدوة الحسنة، وهو أسلوب ذو حدين، لأنه يعني إيصال الأخلاق الفاضلة للأبناء عن طريق السلوك الحسن، فإن كان السلوك سالبا انقلبت القدوة إلى قدوة سيئة، لذلك وجب على الوالدين أن يراقبا سلوكهما وأقوالهما أمام أبنائهما، كما عليهما أن يهتما بالوسط الذي يتربى فيه الأولاد لأنه كما يقتدون به يقتدون بغيره. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا” (4)، والمقصد أن يقتدي الأطفال الصغار الذين لا يؤتى بهم إلى المسجد بآبائهم.
التأديب والتهذيب
الطفولة هي فترة بناء الإنسان، فتبنى فيه سلوكيات وتكبر معه على حسب ما يصادفه من الأهل من تعامل. لهذا يجب على الآباء أن يكون نفسهم طويلا مع الأطفال، ولا داعي للضرب أو التقليل من شأنهم، وخصوصا أمام الآخرين. وعندما يصدر من الطفل سلوك خاطئ، يجب اتباع الأسلوب الحازم، فنعطي للطفل إشارة أو سيحرم من شيء يحبه. وتأديب الطفل دون تعنيف من سنة نبي الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما ذكره أنس رضي الله عنه: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت نعم أنا ذاهب يا رسول الله، قال أنس والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته لما فعلت كذا وكذا” (5). أليس هذا يبرر لنا التوجيه النبوي لطفل تقاعس عن تنفيذ أمره صلى الله عليه سلم، فقابل هذا التقاعس بضحكه، وناداه بلفظ التصغير «أنيس» تلطفا به، ودون أن يعنفه.
قواعد لابد منها
ولتنجح هذه الأساليب وتعطي مفعولها لابد أن تراعى في تطبيقها أمور منهجية مهمة وهي:
القابلية؛ ومعناها انتهاز الأوقات التي يكون فيها قلب الطفل مستعدا لتقبل المعلومة أو الموعظة، وتجنب الأوقات التي يكون فيها قلبه مشغولا، كالوقت الذي يداهم فيه الطفل النوم، أو الوقت الذي اعتاد الخروج فيه للعب مع أصدقائه. فينبغي اغتنام الأوقات التي يكون اهتمامه فيها حاضرا وقلبه منتبها، وإلا فمن حمل الطفل فوق طاقته فهو كمن يكلمه بلغة لا يفهمها، ولذلك نجد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكلف الآباء بأمر أولادهم بالصلاة إلا لسبع سنين، لأنه السن الذي يفقهون فيه معنى الصلاة، ثم أمرهم بضربهم عليها لعشر لأنه الوقت المناسب لذلك أيضا.
التدرج؛ ومعناه التدرج في إعطاء الطفل التوجيهات والأوامر، وعدم دفعه إلى القضايا دفعة واحدة، فلهذا التدرج في الخطوات أثر كبير في نفس الطفل واستجابته؛ لأنه ما زال غضا فلا بد من التدرج معه، ونقله من مرحلة إلى أخرى، وكقاعدة عامة، فإن التربية تكون فعالة إذا تدرجت من الملاحظة ثم إلى تلقين الأساسيات ثم التدريب ثم التطبيق.
المثابرة؛ ومعناها المداومة على التعليم والتذكير، ولا نعني بهذا نصح الأولاد نصيحة طويلة نجمع لهم فيها أدب الدنيا والدين، ووصايا الأولين والآخرين، وإنما نعني تعهدهم ومتابعتهم والاستمرارية على النصح وتكريره. ويدل عليها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا” (6).
وختاما؛ إن من أعظم ما افترضه الله علينا تجاه نعمة الذرية أن نقوم على أمر تربيتهم وتعهدهم بما يصلح لهم أمور دنياهم وآخرتهم، وتحصينهم من تلك التيارات الجارفة، ليكونوا ذخرا لنا في الدنيا والآخرة، وهذا ما أكد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ قال: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ” (7). الأولاد إذن من عمل الآباء، ومن ثمرة ذلك أن الحسنات التي يعملها الولد الصالح يكون لوالديه منها نصيب. كما والحديث دليـل قاطع على أن الذريَّة -صالحةً أو فاسدةً- هي من عمل الإنسان، لذا “فقد توجّه أمامَنَا عِظَمُ مسؤولية الإنسان عن ذريته: تصلح إن أصلحها، وتَفْسُدُ إن أساء تنشِئتها. فيترتب على هذا المنطقِ المستنير بنور الوحي ونور التوجيه النبوي منهاج المسؤولية البشرية عن صلاح الأجيال وفسادها” (8).
الإحالات:
(1) رواه النسائي.
(2) متفق عليه.
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) صحيح مسلم.
(6) رواه البخاري.
(7) رواه ابن ماجة.
(8) تنوير المؤمنات، ج 2، ص 220.