“المرأة الأخرى التي تسكنني” (قصة قصيرة)

جلست رحيمو فوق مقعد حديدي بجانب الكورنيش، تتأمل البحر، وتتملى في زرقته السماوية، مستمتعة بهديره ورائحته المميزة، تداعب وجهها نسيمات رياح منعشة، تحيي فيها ذكريات خلت من تسعينيات القرن الماضي. عندما كانت طالبة جامعية في سنتها الثالثة، شابة جميلة مفعمة بالحيوية والنشاط، شعلة متقدة من الحماس، يطلب ودها أغلب الشباب، ويتقدم لها الواحد تلو الآخر، وهي تتريث وتتهرب؛ متوجسة، خائفة على أحلامها أن تغتال بزواج يسلبها حقها في متابعة دراستها وحصولها على شهادة جامعية، كانت تمثل أسمى أمانيها آنذاك…
إلى أن تقدم لها سعيد، شاب خلوق متدين ونشيط، يتمتع بكل مقومات الجاذبية التي تسعد الفتيات وتروق لهن، غير أن ما يعيبه هو كونه طالبا في سنته الأخيرة.
ترددت واحتارت في القبول به، وهو ما زال غضا فتيا لا يملك شيئا..
وانتصر نداء القلب على العقل، لتقبل به زوجا، متحدية بذلك عائلتها وصديقاتها وجميع معارفها الذين تدخلوا مرارا في ثنيها عن هذا الزواج.
تحملت جميع أصناف المعارضة ليكون نصفها الآخر الذي تكمل معه مسيرة حياتها، مستحملة قلة ذات يده. آثرته على أصحاب المال والجاه، لتقاسمه غرفة في بيت الأسرة.
كانت ترى أن ما يربطهما أعمق من ماديات الدنيا، فاكتفت بالقليل راضية بسقف يجمعهما وظلال من المحبة والسعادة تكتنفهما.
تتذكر كيف كافحا، وناضلا من أجل الحصول على وظيفة مرموقة حتى حصلا عليها معا، فكانت النقطة الأولى التي ستعمر البئر لتتوالى الفيوضات.. الواحدة تلو الأخرى.
لينتقلا إلى سكن مستقل ويتقلدا منصبا هاما، ويسعدا بثلاثة أبناء؛ أكبرهم في نهاية العشرينيات، وقد أصبح اليوم مهندسا.
حياة طويلة… بذلت فيها وناضلت وكافحت لتنعم بأسرة جميلة سعيدة، لتفاجأ بابنها البكر يرغب في الحديث معها حول موضوع خاص.
جلست معه في غرفته، تستمع إليه باهتمام.
– أمي أريد أن أخطب فتاة… آن الأوان أن يكون لي بيت وأسرة.
فرحت رحيمو وهللت من السعادة، أخيرا وصل أبناؤها إلى بر الأمان، وبدأوا يفكرون في الاستقلال.
– أخبرني عزيزي من هي؟ إحدى المهندسات اللواتي يشتغلن معك؟!
ارتبك أحمد قليلا ثم قال:
– لا، انك تعرفينها جيدا.. سارة ابنة سي عمر، جارنا في حينا القديم.
امتقع وجه رحيمو، وأحست برجفة تصيب جسدها لتنطلق كقنبلة موقوتة:
– ألم تجد إلا سارة بنت سي عمر، لم تملأ عينيك إلا تلك الفتاة المعدمة، الفقيرة أسرتها. وماذا عن تلك الحارة القديمة التي تسكنها؟! أو سأخطب لك وأنا الأستاذة الجامعية، من ذلك الحي المتهالك المتداعي؟ وماذا عن والدها الذي يشتغل مياوما، بالكاد يجمع قوت يومه.. أو ستقوم أنت بذلك نيابة عنه؟
وقف أحمد واجما أمام كلمات أمه التي انطلقت كرصاصات قاتلة، لا يصدق ما يراه ولا يكاد ينطق ببنت شفة، وهو الذي كان يراها مثالا للتضحية ورمزا للصمود، وخطيبة جهبذ؛ تدافع عن الحقوق وتواسي الضعفاء، ليفاجأ بها امرأة أخرى، لا تلك التي فتح عينيه على كفاحها وإيمانها بالقيم والمثل العليا.
– وهل هذا ما يعيبها أمي؟
ردت بحنق:
– لم أعبها لشخصها، سارة خلوقة متدينة، لكنها بسيطة.. ثم أردفت:
– في الحقيقة يعيبها فقرها.. أريدك أن تتزوج بمن تدفعك إلى الأمام، وتعلو بك إلى سلم المجد. أما سارة فستنحدر بك إلى الحضيض.. إلى تلك البيئة التعيسة.
نظر أحمد مليا إلى والدته، الأستاذة المناضلة، نصيرة المستضعفين وحاملة المبادئ.. نظرة استغراب وحيرة ليغادر إلى خارج البيت.
جلست رحيمو تفكر في هذا الحوار غير المتوقع الذي دار بينها وبين ابنها، هل تضغط عليه كأمهات الزمن الماضي وتمارس سلطتها عليه باسم الأمومة وبر الوالدين؛ “ها الرضا.. ها السخط إن تزوجت سارة”.
استغربت من حالها ومن المرأة الأخرى التي تسكنها. توضأت وصلت ركعتين، استقلت سيارتها وتوجهت نحو الكورنيش لتنعم بلحظات هدوء، تفكر خلالها تفكيرا وجيها بعيدا عن الغضب والانفعال.. تحاور نفسها وتسائلها؛ أو بدأت تنتكسين، وعن مبادئك تتخلين، وبإيمانك تجحدين؟
أين الشعارات البراقة، والكلمات الطنانة، والمواعظ الرنانة، التي تنتشي “باظفر بذات الدين”؟
بررت موقفها باسم الأمومة، فكل واحدة منا ترجو أن لا يقاسي أبناؤها ما قاست، فذاك زمن وهذا آخر.. ولكل وقت إكراهاته.
لكن أحمد لم يسئ في شيء، اختار من تكمل معه مشوار حياته بكل استقلالية وصدق.
تستيقظ المرأة الأخرى في داخلها قبل أن تلين وتضعف.. تصرخ فيها: الزواج لا يبنى فقط على الحب والإعجاب، بل على إعمال العقل والحرص على التكافؤ.
استعجبت من المكنونات التي استيقظت فيها عند أول محك واختبار… وهي التي كانت بالأمس تقطن غرفة في بيت العائلة، صحبة زوج لم ينه دراسته الجامعية بعد.
وماذا عن البناء الذي أسسته لبنةَ لبنة، لتقطف غراس ذلك بعد جهد وعناء كبيرين، وتقف اليوم في مواجهة قرار فلذة كبدها، وما عابت على خطيبته سوى فقرها.. أو تناست ما كابدته وزوجها.
هل تحطم قلب ولدها بعذر بغيض؟ وهي التي تعرف أنه سيبرها ويحتكم إلى قرارها كرها وليس طوعا وحبا..
وهل ستتحمل نظراته الحبلى باللوم والعتاب؟
جمعت رباطة جأشها وصفعت الأفعى التي تسكنها، تلك التي ربتها ونمتها حتى استقوت، لقد أصبحت كأيها الناس، أعرابية الطباع، لم تؤت أكلها من سنوات الصحبة والجهاد، ولم تترك أثرا في تفكيرها وعقلها.
كبرت الأنا في داخلها وتضخمت ونسيت من يبدل الأحوال من حال إلى حال، وقد كانت بالأمس شيئا لا يذكر.
آن الأوان أن تعيد النظر في نفسها، تجثو على ركبتيها، نادمة، طامعة بما يجود به المولى عليها من عفو وإحسان.