الشاب الذي راجعني

سقطت قطرة عرق مشتعلة من جبيني على تذكرة السفر التي أحمل بين يدي. كنت أحدق فيها.. أقرأ وأعيد قراءة أرقامها والحروف.. مدينة الانطلاق مراكش ومدينة الوصول الجديدة. أمزق جنباتها لأفْرِغَ توتري وخوفي من شيء غير متوقع في حياتي. هكذا أبتعد عن مدينتي.. عن طفولتي والجذور.. تاركا خلفي سبعة عشرة سنة بربيعها وخريفها.. ودروب حي تبرد حين تشتعل حرارة الصيف القارية، وتدفأ حين تهبُّ عواصف قمم الضواحي الثلجية.
“الآن أصبحتَ مسؤولا عن نفسك”. هكذا قال والدي وهو يضع مبلغا إضافيا في جيبي. نبرة صوته ما زالت تتردد في أذني، انتزعت مني ابتسامة خافتة وتمردَ مراهق، فصرت أصحح له في نفسي بثقة زائدة: “الآن أصبحتُ وحيدا في مواجهة الحياة”، “الآن أصبحتُ حرا دون رقابة”، “الآن أصبحتُ مخففا من الأوامر”. في الحقيقة كنت أبحث عن طعم الحرية ونظرة الاعتبار في عيون الآخرين التي طالما انتظرت، فيتردد صدى من كهوف روحي الخاوية يعيد: مسؤولية.. حرية.. وحدة… ألملمها كطفل يترنح ماشيا عَلّنِي أمسك خيوطها فأصنع منها سبيلا جديدا.
تنبعث من داخلي تنهيدة عميقة تُخرج خوفا غامضا وفرحة مشَوَّشة وأسئلة عالقة. فأعود لأتشبث بمكاني رافضا أن أغادر قبل أن تكتمل فراغاتي.. لكني عبثا أحاول، فعقارب الساعة تدور دون توقف، وعجلات الحافلة تلاحقها غير آبهة بالأمواج المتلاطمة في داخلي. رفعت رأسي فسقط بصري على المرآة الجانبية للسائق، كانت كشاشة تعرض فيلما سريعا يختصر الزمان والمكان.. في الأعلى يظهر احمرار شمس أصيل ثابتة، وفي الأسفل دور حمراء تودعني في صف متراص، قبل أن تبتعد مسرعة ثم تغادر شاشة المرآة.. تتسارع حركتها دون أن تترك لي فرصة رد تحية الوداع أو إشباع شوق الرحيل أو التفاخر والانتشاء ببلوغ عمر ملّكني شهادة حرية مستحقة.
فجأة وقفت بجانبي امرأة ستينية يبدو من لباسها وحديثها أنها قروية، سألتني بلكنة “دكالية” خالصة: “هاذ بْلاصة خاوية؟”. أخرجتني من تفكيري، نظرت إليها لبرهة كمن استفاق لتوه من نوم عميق، وقبل أن أدرك المطلوب كانت قد أخذت مكانها بجانبي. “بْلاصتي جات فوق الرويضة.. الطريكَ كاملة ونا نْتْنْخض”. ثم نادت حفيدها ذا الست سنوات ليقترب منها، أجلسته على ركبتيها، فضاق المكان من حولي مما زاد في اختناقي. نظرت إلى التذكرة بين يدي أسائلها ما هذه الحافلة التافهة؟
استرجعت أنفاسي وأومأت برأسي وهمست مثبتا أعصابي: “أنا مسؤول عن نفسي”، وهممت بتغيير مكاني.. وفيما كنت أجول ببصري بحثا عن مقعد فارغ ألقت هي بحجرة كانت تثقل قلبها، فشدتني بحديث، مطول ودون مقدمات، عن ابنها الذي غادر الدوار إلى مراكش ولم يعد.. فحملها الشوق و”الكبدة الخايبة” كما قالت، فجاءت تبحث عنه لتروي ظمأها منه.
رأيت في عينيها شوقا كشوقي وحبا كحبي وأملا كأملي وارتباطا كارتباطي وعطشا كعطشي وذكريات كذكرياتي وقرة عين كقرة عيني. بكت فأبكتني، وحكت فردَّدَت حكايتي. حكاية ألم البعاد، وحكاية فراق الحبيب والقريب.
قالت “ما فقلبو رحمة ولا شفقة نسا كلشي وغبر تكَول واش عدوتو”. هزتني جملتها وهي تخرج حارة من قلبها، فتساقطت أوراقي الجافة. وصرت أحدق في عينيها فأرى قلبها مشتعلا، وكلماتها تنقذني من لحظة احتضار قلبي، لحظة كنت لِتَوِّي أسقيها بأنانية طافحة. رأيت فيها صورة والدتي.. وتخيلتها وهي بجانبي تبث لهفتها علي ورغبتها في معانقتي.. فأستعيد صورتها لحظة توديعي، عندما كانت تحشو حقيبتي بالحلويات والمأكولات، ثم المزيد من “الأكسيسوارات” التي تعكس تهممها بتفاصيل وجزئيات لا أستوعب ضرورتها. وكلما دققت في تفاصيل تلك اللحظة إلا وتساءلت… كيف أني لم ألاحظ تلك الدمعة المترقرقة في مقلتيها؟ كيف لم أنتبه إليها وهي تصارعها فتخفي وجهها بين أشيائي التي ترتبها وتعيد ترتيبها حتى لا تفضح ضعفها؟ كيف لم أسمع نبضات قلبها وتقطع عبراتها؟ لقد كانت تقويني إذ تضعف هي.. وتشجعني إذ تنهار هي.. وتجبر خاطري إذ تنكسر هي.. وكنت أنا أقف أمامها مغفلا بخيلا أنانيا جبانا متعاليا.
أما والدي الذي لم أمنحه أكثر من قبلة سريعة موزعة بين الرأس واليد. لماذا لم ألق بنفسي بين ذراعيه وأملأ رئتي من نَفَسه الطيّب؟ آآآه كم كنت فاقد الإحساس وناكر الجميل. كان علي أن أشعر بقلبيهما فأروي ظمأهما، إلا أني انتشيت بلحظة حرية بطعم الفراق فأشبعت كبريائي المغشوش حين كان ينبغي أن أحزن.
ألقيت رأسي إلى الخلف، وأغمضت عيني، وتركت الدمعة تنوب عني لتغسل الجحود.. وتسقي نبتة ذبلت، وتعيد رباطي بقرة عيني.. رباط لا يقطعه بعد المسافة ولا دوران الزمن ولا صوت العجلات مهما اختارت من الوجهات والغايات. لم أترك خلفي فقط زقاق المدينة وذكرياتها، لكني تركت أيضا حضن أم وقلب أب.. تركت حنوا وعطفا ورعاية طالما غطت ظهري اليافع من نوائب الدهر وحمت رجْلَي من حُفَر الأزقة الموحلة ذات شتاءات غائمة.. تركت العين وقرتها، تركت الشمس وقمرها. سرحت في السبعة عشرة سنة المنصرمة، لأجد في ثناياها ما لا حصر له من درر الأبوة وجواهر الأمومة.. فيما بدأ دوران العجلات يتثاقل معلنا نهاية رحلتي وبداية زمن جديد من حياتي.
اللهم ارحم والداي رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناتك. اللهم وفقني لأكون الولد الصالح الذي يدعو لهما حتى لا ينقطع عملهما. آمين.