التربية الجنسية: سنن وعقبات

قد يتبادر إلى الأذهان بعد قراءة العنوان أننا سنطرق موضوعا يوصم في عرفنا العام بـ”العيب”، غير أنه في حقيقة الأمر موضوع تربوي محض، لا يقل أهمية عن القضايا التربوية الأخرى التي تكون في مجموعها تربية سليمة متوازنة متكاملة؛ إذ التربية الجنسية ما هي إلا توجيه للسلوك الجنسي للفرد توجيها صحيحا وفق ضوابط صحية ودينية وأخلاقية تعارف عليها الذوق العام، ثم وفق ما يسمح به النمو الجسدي والعقلي والواقع الاجتماعي. ومن شأن هذا التوجيه أن يؤهل الفرد لإدراك نموه الجنسي ومواجهة المشاكل المرتبطة به مواجهة سليمة تحفظ جوانبه النفسية والجسدية والدينية على حد سواء.
ونحن في زمن الفتن هذا، حري بنا أن نأخذ بأيدي فلذات أكبادنا فنربيهم تربية صحيحة تحصنهم من مزالق الطريق الوعرة، وحري بنا كذلك أن نرفع وصم العيب عن هذا الجانب التربوي الذي هو من صميم شأن الأبوين بادئ الأمر. وكل استبعاد لهذا الجانب التربوي يجعل مشروع التنشئة عملية ناقصة بتراء؛ لأنه أغفل ثغرة قد تتسرب من خلالها اختلالات تربوية ومعرفية خطيرة، قد يصعب تقويمها بعد فوات حينها.
قد يغيب عن وعينا في الغالب أن ديننا الحنيف أولى هذا الجانب التربوي أهمية بالغة في الكتاب والسنة على حد سواء، وتناولها بكل رقي، ووفقا لنظام بالغ الدقة يراعي أطوار النمو العمري للفرد؛ مولودا حديثا، ثم مراهقا، ثم شابا مقبلا على الزواج. فتبدأ حياته بأول خصلة من خصال الفطرة وهي الختان سنةً نبويةً تخص الذكور، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خمس من الفطرة؛ الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب” (رواه البخاري). ثم تبدأ تنشئته وهو طفل على الطهارة؛ بدءا من قضاء الحاجة ثم الوضوء والصلاة وما يتعلق بأحكامهما من نواقض وغيرها، وصولا إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بين الأبناء في المضاجع، وما يعنيه ذلك من إيذان بدخول الولد والبنت طورا جديدا من حياتهما الجنسية، ووجوب إيلاء الجسد حرمة وعناية. ولذات الغاية أوجب الإسلام تعليم الأبناء آداب الاستئذان على الكبير. كل ذلك وفق تدريب عملي يؤهلهم لاستشراف طور المراهقة دون صدمات نفسية، وهو الطور الذي يقتضي الانتقال إلى مستوى أعلى من الأول؛ تبدأ فيه التربية على غض البصر والتحذير من الوقوع في الزنا وما يقرب إليها. ذلك كله يجري على نحو ينفتل فيه الترغيب والترهيب، الرحمة والحكمة، الأمر والنهي، وكل ما يناسب مستوى النضج الجنسي الذي بلغه المراهق، دون إغفال لبعض الوسائل العلاجية المساعدة لِتَوَقّي الوقوع في المحذور، إلى أن يصل سن الزواج فيتعلم أحكامه وكل ما يتعلق بالمعاشرة الزوجية، أخذا عن دين الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون حياء قد يضيع معه الدين.
إن هذا النظام التربوي المحكم الذي خطه لنا الكتاب والسنة لا يغنينا عن ضرورة توفير بيئة سليمة تعامل الفرد منذ ولادته معاملة صحيحة، تساعده على تطبيق التوجيهات التربوية التي تخص كل مرحلة من مراحل حياته؛ فيتسنى له أن ينمو نموا سليما يجنبه خطر المشاكل التي تظهر في الغالب نتيجة لتراكمات سابقة أو لتساؤلات لم تلق جوابا في حينها، فتنشأ عن ذلك انحرافات جنسية خطيرة.
كما أن هذا القانون الرباني المحكم والبيئة السليمة داخل الأسرة لا يغنيان عن الاستعانة بوسائل آمنة، تعين الوالدين معا على هذه المهمة التي تزداد جسامة مع تعقد المشاكل الجنسية في واقعنا المعاصر وتطورها. ومن هذه الوسائل الشريكة في مهمة التنشئة نجد المدرسة والمسجد والنادي الرياضي والرفقة الصالحة والإعلام الهادف. غير أن هذه الوسائل كلها تبقى غير كافية هي الأخرى في مواجهة التعقيدات والتهديدات والثغرات الكثيرة التي يحتمل أن يؤتى منها أبناؤنا على حين غرة في هذا الزمن الذي يشهد طوفانا إعلاميا، وقصفا إباحيا يحيلنا إلى ما أوصى به سيدنا علي كرم الله وجهه في توجيهه التربوي الخالد للآباء حين قال: (لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، وهو التوجيه الذي يفرض على كل أطراف المنظومة التربوية البحث عن اجتهاد علمي وفقهي يقدم حلولا مستحدثة وواقعية، بروح قرآنية معاصرة تعصم أولادنا من هذا الطوفان الإعلامي الإباحي الجارف، ويساعدهم على مواجهة ظواهر الجهل الجنسي المستفحل بين الشباب، ويحميهم من التطبيع مع الظواهر السلوكية الدخيلة تحت مسميات: “الأمهات العازبات” و”الأطفال خارج إطار الزواج” و”عاملات الجنس” و”المثلية” و”التحول الجنسي”.. وغيرها من الظواهر التي تنذر بدمار أخلاقي شامل.
إن القوانين التربوية القرآنية والنبوية تظل عندنا من الثوابت التي لا تمس ولا تستبدل، لكن تقديمها وفق ما يقتضيه الواقع المعاصر أمر مطلوب وبالغ الأهمية، ولا يمكن أن تثمر إلا به. يقول الإمام عبد السلام ياسين في سياق تفسيره التجديدي للآية القرآنية من سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ: “ومن القتل بل من أقساه أن نترك عوامل التضليل تغتالهم من بين أيدينا”. ولا شك أننا نقذف بأبنائنا في أتون مَقْتلة إذا نحن قصرنا في واجب التربية الجنسية من حيث هي علم طاهر شريف، وسنن فطرية جاء بها الإسلام، لا مجرد استيراد سلوكي دخيل.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.