الأمومة العاقة

الأم رمز الحياة ومنبعها، والأمومة أسمى وظيفة تقوم بها المرأة وأقدسها، وأن تصبحي أما وتعيشي فطرتك في الإنجاب لا يعني أن تقبلي بأول من يطرق بابك خاطبا، ولا أن تتذوقي مرارة الغثيان وانتفاخ البطن وثقل الجسم، ولا أن تتحملي ألم المخاض والطلق، فذاك غيض من فيض أنعُم الله تعالى على المرأة، فجعل بطنها وعاء، وثديها غذاء، وقلبها احتواء لإنسان ينمو ويكبر تحت ناظرها وبرعايتها، وما جعل بر الأم عملا موجبا للجنة إلا لقداسة المهمة.
الأمومة أقدس مهمة
الأمومة مهنة عظيمة ومقدسة، لأنها تصون الإنسان وترعاه وتعضده، لينتقل من مرحلة الضعف في طفولته إلى القوة والعطاء في شبابه.
أن تصبحي أما يعني أنك ستصيرين راعية ومسؤولة، ولا تنحصر مسؤوليتك في توفير المأكل والملبس فقط، فهذا ما تفعله باقي الكائنات، بل تتعدى ذلك؛ فأنت مسؤولة عما ربيت عليه طفلك، وما اكتسبه من خير أو شر، فقد ولد من رحمك كصفحة بيضاء أنت أول من عرفه من العالم، وهو مرآة لقيمك وأخلاقك. يقول الإمام الغزالي: “الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم؛ شقي وهدك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له” (1).
ما أعجب أن نعرف أن الآباء يعقون أبناءهم، وأن نرى الأمومة في زماننا قاسية وفارغة من جوهرها، ليس من الناحية التي يصورها لنا خبراء التربية الحديثة والإعلام المعاصر في تبيان مخاطر التعنيف الجسدي والمعنوي، بل قاسية وفارغة من جوهرها لأنها أصبحت عادة تمارسها المرأة تقليدا لما رأته في مجتمعها لمفهوم الأمومة ودورها، المتمثل في التنافس الخفي والمحموم الذي يذكيه إعلام “سوشيال ميديا” في الاعتناء بنظافة الجسم، وجودة المأكل والمشرب، وفي اقتناء أحدث صيحات الملابس للطفل، مع مراقبة ومتابعة دقيقة لمساره الدراسي ليتفوق على ابن الخالة أو الجارة… كل هذا يكون مقبولا إن لم يكن غالبا وطاغيا على جوانب أهم وأولى بالاهتمام والتنافس، لأن الأمومة ليست مهنة الاعتناء بجسد سيفنى فحسب.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق ابنه فأحضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه وأنبه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (القرآن). فقال الإبن: يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئاً من ذلك: أما أمي فإنها ونجية كانت لمجوسي، وقد سماني جعلاً (يعني خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل، وقال له: أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
هل أنا أم عاقة أم بارة؟
عاق ابنه، وتعوق أمومتها من حيث تعتقد أنها تحسن صنعة، عندما تحرص على سلامة الحياة والبدن، دون أن تحرص على المغزى من الحياة، الذي يكمن في الحفاظ على فطرة ولدها من التشويه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه” (2).
الأمومة العاقة هي عندما تقوم المرأة بوظيفتها البيولوجية في الإنجاب، تلد وترعى ولا تربي، فهي لم تُؤَدِّ واجب عاطفتها وعقلها وإيمانها، أخرجت إلى الوجود جسما جديدا، انضاف إلى غثاء السيل الذي حذرنا منه الرسول ﷺ (3).
وإذا كانت الرعاية وحضانة الطفل والاهتمام به نفسيا وجسميا من مسؤوليات الأم، فإن الأمومة الحقة هي التي تدرك فيها الأم جيدا أن التربية لا تقتصر على توفير ظروف العيش الملائمة، بل هي التي تعي أن ابنها عمل لا ينقطع بموتها، وهو جزء منها سيبقى ويمتد عبر أجيال ولآجال، روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له” (4).
الحديث دليـل قاطع على أن الذريَّة -صالحةً أو فاسدةً- هي من عمل الإنسان، لا ينفي كونُها خلقا لله كونَها عمَلاً للإنسان، فقد توجّه أمامَنَا عِظَمُ مسؤولية الإنسان عن ذريته: تصلح إن أصلحها، وتَفْسُدُ إن أساء تنشِئتها (5).
مهمة الأمومة هي الإدراك التام بأن تربية الطفل تكمن في تنشئته عبدا من عباد الرحمان وأمة من إمائه، بتربية صحيحة تساهم في الحفاظ على استقرار الأسرة، رمزِ استقرار المجتمع وتقدمه. ومن ملامح هذه التربية:
– تربية تبدأ بتلقين الشهادتين والربط بالخالق الأحد، لتكون “أول كلمة تفرحين بها تخرج من فم الصبية والصبي لا إله إلا الله. وأول جملة قل هو الله” (6).
– تربية محببة لتلاوة القرآن وحفظه وتعلمه منذ الصبا، ليكون “القرآن محور العملية التربوية ومورد العلم وجامع العلوم. لاسيما في السنوات التسع الأولى حين يتكون النسيجُ الأساسي للشخصية” (7).
– تعليم وتربية على حَسَنِ العادات والآداب من أكل وشرب وحديث مع الناس… وعلى عبادات الإسلام ومعاملاته وأخلاقه.
– تربية محبِّبة في الحبيب المصطفى ﷺ وسيرته، ليكون للأبناء قدوة وإسوة، وسراجا ونبراسا.
– الحرص على الأبناء من الإعلام الفاسد، والصحبة السيئة، للنبات على الاستقامة، كالفلاح الذي يرعى نبتته ويقوم غصنها الطري حتى يستقيم عود النبتة ويتصلب، وتصبح شجرة صامدة في وجه الرياح، فالإبن بين يدي والديه مثل بذرة تحتاج بيئة سليمة وماء نقيا لتنمو وتعطي ثمارها، وإلا ذبلت، أو أصبحت شوكا أول من يتأذى منها راعيها.
الأم هي من عرفت قصدها من الإنجاب والتربية، واستشعرت مسؤوليتها، فهان عليها ما تجد من صعوبات وعقبات، تذللها باكتساب مهارات التربية الناجحة وأساليبها، تبحث وتسأل وتختار لنفسها صويحبات تكن لها نعم العون والسند، والناصح الموجه، فتربية الأبناء زينة الحياة الدنيا، وأمنية العديد من الأزواج، ورزق ونعمة وقرة أعين، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان، 74).
الهوامش:
(1) الغزالي أبو حامد محمد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، 3/7.
(2) الحديث صحيح، رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.
(3) عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت». أخرجه أبو داود في سننه، 2/10.
(4) رواه مسلم.
(5) ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط 1، 1996، ج 2/220.
(6) المرجع نفسه، 2/262.
(7) المرجع نفسه والصفحة.