الأبوة والنبوة

من كمال نعم الله سبحانه وتعالى أن جعل الأنبياء بشرا مثلنا؛ لهم من القلوب والمشاعر وحب الزوجة والأبناء واشتهاء الذرية والحب الشديد لهم، بل الخوف عليهم، ما يجعلهم قدوة لنا في الحرص على الأسرة ومكوناتها، وذلك مصداقا لقوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (الرعد، 38).
حب الأبناء من الفطرة التى فطر الله الناس عليها؛ فالأبناء نعمة وزينة في الحياة الدنيا وذخر في الآخرة كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (الكهف، 46).
فهم هبة من الله سبحانه وتعالى حيث قال في كتابه العزيز: لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (الشورى، 49-50)
ومن المعلوم من هذه الآية الكريمة أن الذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء من الله سبحانه وتعالى للبشر. وحين يمنح الله سبحانه وتعالى فهذا المنح لابد أن يعقبه شكر على عطاء الله، وعند المنع لابد أن يلازم المرء الدعاء والصبر. والمنع والعطاء في الذرية كان أحد الجوانب الإنسانية في حياة الأنبياء التي عايشوها وظهرت مشاعرهم وأحاسيسهم في هذا الشأن، فكانوا آباء يتحملون أعباء أبنائهم ومشقة دعوتهم، وبهم نقتدي ومنهم نأخذ العبر.
الصبر على الابتلاء
فهذا إبراهيم عليه السلام يرزق بالغلام الحليم، ويا لها من فرحة وسعادة؛ بشرى بغلام متصف بصفات يحبها الأب، إنها نعمة عظيمة من الله، وتزداد فرحة الوالد بولده حينما يشتد عوده ويبلغ السعي مع والده ويشاركه، فتزداد فرحة إبراهيم عليه السلام بغلامه الحليم، حقا لقد تحققت الفرحة وزادت السعادة بإسماعيل.
ومع الفرحة العارمة بمجيء إسماعيل، واكتمال السعادة ببلوغه السعي، يأتي الاختبار العظيم؛ اختبار العاطفة واختبار الطاعة والاستسلام برؤيا إبراهيم بذبح إسماعيل، فكان التسليم لأمر الله ولو كان تلميحا وليس تصريحا، كانت استجابة من شيخ كبير رزق بغلام حليم في غربة عن الأوطان، فلم يشأ إبراهيم أن يباغت إسماعيل بتحقيق أمر الله دون مشاركة من الابن الصالح فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات، 102).
سبحان الله؛ فعند التسليم والاستسلام من الأب المحب لابنه والطاعة من الابن الصالح ظهرت نتيجة الاختبار فجاء النداء لإبراهيم وإسماعيل بالفداء العظيم لعظمة الاختبار والنتيجة، هي رحمة الله بعباده، فماذا يسفر الذبح والدم بعد الطاعة والاستسلام دون تهاون أو تأخير أو تضجر، ومع رحمة الأب بابنه وعاطفته العارمة إلا أن هذه العاطفة والرحمة هي أقل من رحمة الله بعباده، فهو الرحمن الرحيم، رحمن الدنيا والآخرة، فكان من عظيم نعم الله علينا أن جعل رحمته مائة ضعف من رحمة الآباء، ومهما كانت رحمة الأب بابنه فرحمة الله أعظم، ومهما كان لطف الآباء بأبنائهم فلطف الله أكبر وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) (الصافات).
وامتن الله على إبراهيم لا بإسماعيل فقط بل بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أيضاً، وفوق ذلك قال كُلًّا هَدَيْنَا (الأنعام، 84) أي أنهما كانا من أهل الهدى.
الحب والعطاء
قد يصل حب الآباء للأبناء أن يُصـاب الآباء بمرض جسماني إذا ما حدث للولد شيء أو غاب عن أبيـه، أوَ لم يفقد نبي الله يعقوب بصره لشدة حـزنه على ابنه يوسف؟! وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف، 84). وقد خشي عليه أبناؤه الهلاك لكثرة ذكره ليوسف: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (يوسف، 85).
ويشم الأب المحزون ريح يوسف عندما قدم أحدهم بقميصه ولمـَّا يصل إليه، حتى إذا ما ألقاه على وجهه ارتدّ بصـيراً، ألا ترى كيف أعاد الله إليه بصـره بفرحته بالبشرى؟
هدا فضل من الله، ولكن يجب العدل في محبة الأبناء لكي لا تشتعل نار الغيرة بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، بل يجب غرس روح المحبة والمودة بينهم.
ومن رأفة الله بالآباء وعدهم ببيت في الجنة إن هم صبروا على موت أبنائهم وحمدوا الله، روى الترمذي في سننه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: فمـاذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً، وسمُّوه بيت الحمد].
التماس الدعاء والتضرع لله
رحمة الله بعباده الصالحين وبأنبيائه عليهم السلام عظيمة، وقد تجلت في إحدى صورها في القصص القرآني، وكانت من رحمة الله سبحانه وتعالى استجابة دعاء نبي الله زكريا؛ الرجل الكبير الذي ليس له ولد وانقطعت عنه أسباب الإنجاب فلم يجد إلا الله فناداه نداء خفيا ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا (مريم، 2-3).
قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره.
وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله. كما قال قتادة في هذه الآية {إذ نادى ربه نداء خفيا}: إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي.
وقال بعض السلف: قام من الليل، عليه السلام، وقد نام أصحابه، فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب، يا رب، يا رب، فقال الله: لبيك، لبيك، لبيك.
فجاء أنموذج نبي الله زكريا في اللجوء إلى الله والتضرع إليه، حتى ولو انقطعت الأسباب الأرضية قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهب لي من لدنك وليا (مريم، 4-5).
ومن المعلوم أن طلب زكريا للذرية كان مقصده تثبيت منهج الله في الأرض. يقول الشيخ سيد طنطاوي: (زكريا يجتهد في الدعاء بأن يرزقه الله الولد، لا من أجل شهوة دنيوية، وإنما من أجل مصلحة الدين والخوف من تضييعه وتبديله والحرص على من يرثه في علمه ونبوته، ويكون مرضياً عنده عز وجل).
وهكذا يتعلم الآباء أن طلب الذرية لابد أن تصحبه أهداف تقيم الدين وتحافظ على حدوده، فكم من مولود لا يعلم أبواه معنى لوجوده ولا يفطن الوليد لغاية حياته.