إضاءات في تربية الأبناء

أبناؤنا فلذات أكبادنا نعمة من نعم الله تعالى، تقر أعيننا بهم ونسعد بوجودهم، فهم ثمرة الحياة وزينتها وأعظم نعم الخالق جل شأنه وعلا، ولا نبالغ إن قلنا إنهم أجل هبة منحنا الله إياها. كما أن وجودهم امتداد لآبائهم وتخليد لهم، وكل ذلك يستوجب منا حسن رعايتهم وتوجيههم وإرشادهم وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، فإن استقاموا أصبحوا قرة أعين آبائهم وفخر أمهاتهم وسندا وذخرا لأوطانهم. يقول الواهب سبحانه وتعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدنْيَا (سورة الكهف، الآية 46)، ويأمل الوالدان بأن يكون وليدهما غرسا مثمرا لحصاد الآخرة.
لتعلم، أيها الأب وأيتها الأم، أن الأسرة هي المحضن الأول لتربية الأبناء، فمن الأسرة يكتسبون القيم ليسموا بأنفسهم وأوطانهم نحو القمم، فمن الأسرة ينهلون، ومنها يتعلمون وعلى نهج الوالدين يسيرون، ولذا كان على الآباء أن يكونوا خير قدوة لأبنائهم في التحلي بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، كنهج حياة يمارسونه سلوكا ومنهجا لا شعارا يرفعونه ولا حديثا يرددونه.
ومما لا شك فيه أن الأسرة هي المدرسة التربوية الفاعلة في غرس القيم والأخلاق، وذلك حينما تكون الأم القدوة الأولى لأبنائها في الحب والرحمة والوفاء والعطاء، وحينما يتمثل الأب الصدق والأمانة والكرم، ليغدوا فخر أبنائهما فيقتدون بهما ويخطون على طريقهما. وهذا يتطلب منك، أيتها الأم الفاضلة وأيها الأب الفاضل، الارتكاز على دعائم أساسية في تربية أبنائكما لتضمنا تربيتهم تربية حسنة. وسأحاول في هذا المقال أن أضع بين أيديكما ومضات في تربية الأبناء.
منارات على الطريق
أشار الإسلام إلى أهميّة ترك الولد بحرية في أول سبع سنين، ثم تأديبه ومراقبته ومحاسبته على أفعاله في السنوات السبع الثانية، ثمّ مصاحبته وإشعاره بنوع من الاستقلاليّة في السنوات السبع الثالثة. فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الولد سَيّدٌ سبع سنين، وعَبْدٌ سبع سنين، ووزير سبع سنين”. لذا سنسير في هذه المقالة على أساس هذه المراحل الثلاث.
1. الولد سيد سبع سنين
مرحلة الطفولة مرحلة مهمة جدا في توجيهِ الولد وتعليمه، لذا وجب على الآباء أن يأخذوا أولادهم بمبادئ الإسلام ليأنسوا بها وينشأوا عليها فيسهل عليهم قبولها عند الكبر، لأن نشأةَ الصغير على شيء تجعله متطبعا به، ومن أغفل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيرا. ولقد أكد الإسلام في هذه المرحلة من عمر الولد على عدة أمور نعرض منها:
العاطفة مع الأطفال:
دعا الإسلام إلى الاهتمام، في هذه المرحلة الحساسة من عمر الطفل، بالجانب العاطفي الذي يؤثر بشكل كبير في مستقبله. فقد يولد الفراغ العاطفي آثارا لا تحمد عقباها في المستقبل، وتشير بعض دراسات علم النفس إلى أنّ اللجوء إلى المخدرات قد يكون أحد أسبابه عدم الاهتمام العاطفي بالطفل من قبل والديه، فيلجأ في شبابه إلى تعاطي المخدرات. من هنا أكد الإسلام على ملء الجانب العاطفي، ونستحضر هنا قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن: (وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأنَّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنَّ الموت لو أتاك أتاني). إن الولد ليس بعضاً من الأب بل هو نفسه، يحكي وجوده وكيانه، فعليه أن يهتم بشؤونه التربوية، وأن يعنى بتهذيبه وكماله، أما إذا أهمل تربيته، ولم يعن بشؤونه يوشك أن يغدو نقمة ووبالا عليه.
الصبر على الأطفال:
وأمر الإسلام بالصبر على ما يلاقيه الوالدان من الطفل، لا سيما في السنين السبع الأولى التي يصدر فيها عن الطفل ما يرهق الوالدين ويشغل بالهما، فكثيرا ما قد يبكي، وكثيرا ما قد يمرض، وكثيرا ما قد يشاغب في لعبه.. وعلى قاعدة “الولد سيّدُ سبع” أمر الإسلام بالصبر على كل هذا مبينا الأجر الذي يمنحه الله تعالى للوالدين، أو المصلحة للطفل حينما يكبر. فقد ورد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا تَضْرِبُوا أَوْلادَكُمْ فِي الْمَهْدِ عَلَى بُكَائِهِمْ، فَإِنَّ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فِي الْمَهْدِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الصَّلاةُ عَلَى نَبِيِّكُمْ، وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِغْفَارٌ لِوَالِدَيْهِ” (رواه أنس بن مالك).
ملاعبة الأطفال:
وأكد الإسلام على لزوم تفهم الوالدين لمرحلة الطفولة في التعامل مع الأولاد، فلا بد للآباء أن يتركوا مقامهم الاجتماعي لينزلوا إلى مستوى طفولة ابنهم، فيلاعبونه بكل عطف وحنان ورحمة، وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “من كان عنده صبيّ فليتصابَ له” (رواه ابن عساكر عن معاوية).
2. الولد عَبْدٌ سبع سنين
الأبناء غراس حياة، وقطوف أمل، وقرة عين الإنسان، هم بناة الغد، وهم رجاله، من أجل ذلك وجه الإسلام عنايته إلى تربيتهم تربية تتضمن جميع جوانب الحياة، لينموا نموا متكاملا، يشمل أجسامهم وأرواحهم، وأخلاقهم وعقولهم. لهذا يجب على الآباء أن يركزوا في هذه المرحلة من العمر على عدة أسس، نذكر منها:
تعليم الطفل:
أولى الإسلام اهتماما كبيرا لتعليم الأولاد وتلقينهم تعاليم دينهم، “فجعل الله عز وجل حبلَ الفطرة ممتدا عبرَ الأجيال عن طريق الأمومة”، فيحبو الطفل نحو الرجولة ويقوم وله من أسوة أبويه وإخباره بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زادٌ منه يستفيض عُمْرَه. يقول الإمام المجدد رحمه الله: “نَكْبَةٌ ورَقدة في الفطرة لا يمكن أن ينبريَ لها بقومة مُحْيِيَةٍ مقومة إلا أمهات صالحات قائمات بوظيفتهن الحافظية كاملة غير منقوصة. وإنك تجد أمهات الغثاء اللاتي ضيَّعْنَ على مَدَى أجيالٍ الجَديلة الـمَعْنويَّة من ضفيرة الفطرة يعتنين بدقة بما يرضَعُ الطفل ويلبَس ويُطبَّبُ. لكنهن عن نشأته الإيمانية ورَضاعِه الفطري في غياب مُذهل. الجسمُ يُدلَّلُ ويُنعم ويُصان، والروح تربيتها سائبة ناكبة غائبة. تنطق هذه الحالة الرديئة بِدهريَّة تّقّمصت الأم وظللت طفولة أبنائها وبناتها بقَتامِ الغفلة عن الله، وظلام الجهل بما أنزل الله، وضبابِ الحِياد والتجاهل واللامبالاة أمام السؤال الفطري المصيري الأخروي. لا تخبر الأم ولا يأبَه الوليد” (كتاب العدل، ص: 304).
تأديب الطفل:
تأديب الأطفال ليس هو ممارسة ذلك النوع من السلطة المطلَقة أو الفوضوية المستبدة والمتسلطة من جهة الآباء نحو أبنائهم، مما يعطي للطفل نوعا من الإحساس بالذل والقهر، ويؤدي إلى زعزعة ثقة الأطفال بنفسهم ويضعف من شخصيتهم في أخطر مراحل تكوينها. إنما لابد أن يمارس الآباء سلطتهم نحو الأطفال بطريقة لائقة وصحيحة وناضجة، وبوعي كامل، حتى تأتي التربية ويأتي التأديب بنتائجهما المرجوة. ومما لاشك فيه أنّ كل طفل يحتاج إلى التأديب، لكنّ المهم هو أن يقدم الوالدان للطفل مع التأديب الأسباب التي بموجبها يعتَبر سلوك الطفل أو تصرفه ـ من وجهة نظرهم ـ مرفوضا ويلزمه أن يتوقّف عنه، أو يكون مستحقا للتأديب أو العقاب إن هو كرره أو استمر فيه.
3. الولد وزير سبع سنين
إن الشاب مع بداية هذه المرحلة يشعر بالتغيير الجسدي والنفسي الذي يطرأ عليه، ويميل نحو حب الاستقلالية عن أبيه وأمه، بل قد يسلك سلوك التمرد عليهما بعد أن عاش السنوات السابقة بإرادة تابعة لإرادتهما. ويشعر الشاب بأن خروجه عن سلطة الأبوين يحقّق له رجولته، وأنه لم يعد طفلا كما كان.
وقد نظم الإسلام هذه العلاقة، فخاطب الوالدين من جهة والولد من جهة أخرى. وأمّا خطابه للوالدين فهو أن يغيرا طريقة تعاملهما مع الولد فقد انتهت مرحلة “العبد” وأتت مرحلة “الوزير” فهو الآن “وزير سبع سنين”. والوزارة تعني إعطاء الولد نوعا من الاستقلالية، لكنها لا تعني إعطاءه الحرية المطلقة. أما خطاب الإسلام للولد فهو التعامل الإيجابي الذي يجب أن لا تعكره كلمة “أفٍّ” في وجههما، بل ولا نظرة مقت إليهما.
أعزائي، عزيزاتي،
الولد إذن أمانة عظيمة تستوجب الحفاظ التام. على الوالد والوالدة أن يحافظا عل سلامة فطرة ولدهما وإلا سيسألانِ عنها في آخرتهما. كما أن الولد عمل يحتاج إلى اهتمام وعناية ورعاية. وهذا ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيّعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته” (رواه النسائي).
من هنا كان حرص الإسلام الشديد على أن يكون الأبوان في ذاتهما مسلمين، أي ممارسين لقيم الإسلام ومبادئه، لكي يكونا القدوة المباشرة لأبنائهما، فتتكون في نفوسهم تلك القيم والمبادئ بغير جهد كبير، وتنشأ في نفوسهم منذ الصغر فتكون عميقة الجذور، ثم يزيدها التعليم رسوخا، ويزيدها المجتمع الإسلامي قوة.