أنوار من سورة النور: استئذان الأطفال

يقول سبحانه وتعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (سورة النور، 35).
قال ابن القيم رحمه الله: “وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ نُورًا، وَجَعَلَ كِتَابَهُ نُورًا، وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُورًا، وَدِينَهُ نُورًا، وَاحْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ بِالنُّورِ، وَجَعَلَ دَارَ أَوْلِيَائِهِ نُورًا تَتَلَأْلَأُ ” (1).
سميت سورة النور بهذا الاسم لما فيها من إضاءات لحياتنا، يقول الدكتور راتب النابلسي: “فالنور هو الحقيقة التي تصح بها حياتنا، وهو من عند الله، وليست هناك جهة غير الله يمكن أن تأخذ منها الحقيقة، الحقيقة وحدها من الله عز وجل، لأن الله نور السماوات والأرض، فلذلك سميت هذه السورة سورة النور لأن فيها إضاءة لحياتنا” (موسوعة النابلسي).
وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: “وإذا استقرأنا موضوع المسمَّى، أو المعنون له بسورة (النور) نجد النور شائعاً في كل أعطافها – لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها – ولكن النور شائع في كل حروفها، لماذا؟ قالوا: لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها، ويعرِّفها أكثر من أي تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نطق هذه الكلمة، والنور لا يُعْرَف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئاً”.
تضمنت السورة الكريمة أحكاما نورانية تساهم في تأسيس مجتمع قائم على مكارم الأخلاق والآداب الحميدة، مجتمع طاهر نقي رباني، بعيد عن المستنقعات الآسنة العفنة. حيث عالجت الآداب الاجتماعية عامة، وآداب البيوت خاصة. مُوَجِّهة المسلمين إلى أسس الحياة الطيبة التي تحمي حرمة المسلم وتحافظ عليه من أخطار التفكك الداخلي والانهيار الخلقي الذي يفتك بالأمم.
نجد معظم أحكام هذه السورة مُوجَّهة إلى الأسرة، لكونها نواة المجتمع وأولى لبناته، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح… إن إصلاح البيئة الأسَرية تهييء لينشأ الطفل في سنواته الأولى على حَسَن العادات، وليتعَلَّم العلم النافِعَ من الأم والأب والإخوة الكبار” (2).
ويقول سيد قطب رحمه الله: “المحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود، وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين. هو تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر، ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله. وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية، وإشراق وطهارة. تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض. نور الله الذي أشرقت به الظلمات. في السماوات والأرض، والقلوب والضمائر، والنفوس والأرواح” (3).
من بين الأحكام المتعلقة بالأسرة المذكورة في سورة النور آداب الاستئذان بين أهل البيت الواحد، يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (سورة النور، 58).
تبين الآية الكريمة آداب استئذان ملك اليمين، والطفل المُميِّز الذي لم يبلغ الحلم، كما بينت أوقات الاستئذان والتي يسكُن بها المرء، ويتّخذها للراحة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: “أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات” (4).
أما الطفل الذي بلغ الحلم، فيجب عليه الاستئذان في جميع الأوقات، امتثالاً لقوله تبارك وتعالى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (سورة النور، 59).
تحمل الآيتان الكريمتان بين ثناياهما تشريعا دقيقا ينظم حياة الفرد داخل البيت الواحد، ومن ذلك تعليم آداب الاستئذان وتوجيه الأطفال الذين لم يبلغوا سن الحلم للاستئذان على الأهل في الأوقات التي ذكرها الله عز وجل في الآية الأولى.
وقد فصلت السنة النبوية آداب الاستئذان التي يجب أن يتحلى بها المسلم، من بين هذه الآداب:
1. البدء بالسلام ثم الاستئذان
روى أبو داود أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه: “اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان. فقل له: قل: السلام عليكم. أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل” (5).
2. عدم دق الباب بعنف
خاصة عند استئذان أبويه، أو ذوي الفضل، أخرج البخاري في (الأدب المفرد) عن أنس رضي الله عنه “أن أبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأصابع”. وكان السلف يقرعون أبواب أشياخهم بالأظافر. وهذا يدل على مبالغتهم في الاحترام والأدب.
3. عدم الوقوف أمام الباب
خشية أن يمتد بصره إلى من بداخل الغرفة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه سهل بن سعد الساعدي: “إنما جعل الاستئذان من أجل البصر” (6).
وروى عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تأتوا البيوت من أبوابها ولكن ائتوها من جوانبها فاستأذنوا. فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا” (7).
وروى أيضا: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم” (8).
هذه أهم آداب الاستئذان التي وضعها الإسلام، فما على الآباء إلا أن يتحلوا بها، ويعلّموها أبناءهم، ليعتادوها في حياتهم اليومية، وفي تعاملهم مع الناس، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “من علامات تربية الأطفال والبالغين تربية حسنة احترامهم لوقت الناس، وحياة الناس الخاصة. ويُثْقِل بعضهم ويتطفل ويدخل الفوضى والتنغيص في أوقات الناس وبرامجهم، فيؤذي ويُقْذي” (9).
فالحكمة من تشريع الاستئذان بين أفراد الأسرة الواحدة هي حفظ الأعراض كي لا تهتك، وحماية الحرمات كي لا تستباح، وتتجلى هذه الحكمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: “إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر” (10).
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري عند شرحه لهذا الحديث: إنما جُعِل – أي الاستئذان – خوفَ النظر إلى عورة المؤمن وما لا يحل منه.
إذا حرص الآباء على توجيه أبنائهم وإرشادهم لتحقيق هذه الآداب داخل البيت، سيتم جني ثمارها الطيبة في المجتمع وينتشر الأمن والسلام ويتحقق الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: “وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أن يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنه كما قال سبحانه: ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (النور، 40)، فلو لم تكن هذه الشمس ما استطاع أحد أن يصنع لنفسه نورا أبداً. فالحق تبارك وتعالى يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهراً شريفاً كريماً عزيزاً؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليماً في وضح النهار؛ لينتج عن هذا اللقاء نسل طاهر جدير بخلافة الله في أرضه” (11).
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (سورة الفرقان، 74).
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (سورة الأحقاف، 15).
المصادر:
(1) ابن القيم الجوزية، اجتماع الجيوش الإسلامية، (2/ 44).
(2) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص203.
(3) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4، ص2484، المكتبة الإسلامية.
(4) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج12، ص304، المكتبة الشاملة الحديثة.
(5) صحيح أبي داود، رقم 5177.
(6) صحيح البخاري، رقم 6241.
(7) صحيح الترغيب، الألباني، رقم 2731.
(8) صحيح أبي داود، رقم 5186.
(9) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص122.
(10) صحيح البخاري، رقم 6241.
(11) تفسير الشعراوي، ج18، سورة النور، موقع الإيمان.