أبي وأمي.. قرتا عيني

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا، وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً (الإسراء 23-24) صدق الله العظيم.
الإحسان إلى الوالدين، وما أدراك ما الوالدان؟ هو حديث عن دَين لا يُقضى، وعن حق لا يُنسى، وأنّى للعبارات أن توفيهما ذرة من حقهما!
إنه حديث عن تلك التي تحملت ما يفوق الأوصاف؛ من آلام حمل وولادة وهم رضاعة، سهر بالليل ونصب بالنهار في سبيل رعايتك وحمايتك.
تلك التي ذبُلت لذبولك، وغابت بسمتها لما غابت ضِحكتك، وذرفت دموعها عندما اشتد مرضك.
تلك التي لم تسعها الدنيا نشوة لما حبوتَ ومشيت، وكانت تسمع نغم الدنيا في كلماتك.
إنها الأم وكفى بها فخرا أن تكون الجنة تحت قدميها.
وهو حديث عن ذاك الذي يرقص قلبه فرحا إذا ما سمع بقدومك، ويتفاخر بين الناس معلنا عن قرب ولادتك.
هو ذاك الذي من أجلك يكد، ولراحتك يشقى، ويدفع عنك صنوف الضرر والأذى.
ذاك الذي يجوب الفيافي والقفار ليلا وبالنهار، بحثا عن لقمة عيش لك ولإخوتك.
إنه الأب نبراسك وسندك، والذي به تتقوى شوكتك وتشد عضدك.
أما وقد عرفت شيئا من حقهما وصنيعها، فهل عساك تظن أن الجميع يقابل الإحسان بالإحسان، أم أن هناك من يقابل الجميل بالتناسي والنكران؟!
يقول أحد التابعين: “البار بوالديه لا يموت ميتة السوء”. فمع صدق هذا القول، وصدق ما يلحق البار بوالديه من خير وبركة ومكرمة، فإنني في هذا الزمان الذي قست فيه القلوب، وطغت فيه المادة، وضعُف فيه الوازع الديني، وتلاشت منه معاني المروءة ومكارم الأخلاق، لأخشى من نشوء جيل القَطيعة الذي لا يعرف للآباء حقا، ولا يحفظ لهم معروفا وودا، ولا يقدر لهم جهدا.
ويا ليت أهل العقوق يقفون على أحوال من سبقهم، ليطّلعوا على العذاب الذي نزل بهم، والنّكال الذي حل بهم.
وكم من الأنوف رغمت ودسّت في التراب عندما تدنست بالعقوق والعصيان!
فيا أيها الأبناء، ألا رفقا بقرة أعينكم، ألا حبا لمن أفنيا عمرهما في سبيل راحتكم.
ولنتفيأ ظلال المواقف المشرفة والصور المشوقة لمعاني البر بالوالدين عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا التابعين.
فقد مر ابن عمر – رضي الله عنهما – برجل يماني يطوف بالبيت، وترَحّل أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلل ** إن ذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة!
وهاهو إياس بن معاوية جعل يبكي لما ماتت أمه، فقيل: ما يُبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وغلق أحدهما.
فمن كان له أبوان فليحسن إليهما، وليهنأ بهما، وليسع جهده في خدمتهما وإرضائهما.
ويوم تُبلى السرائر، حينها سيرى أهل العقوق غَبّ عقوقهم، وسيرى أهل البر حسن العاقبة.
فطوبى لمن لقي الله ووالداه عنه راضيان.