كيف نعيش أنوار رمضان بعد انصرامه؟

تصرم رمضان وانقضى على عجل مخلفا في النفس لذة الشوق إلى أنواره، وتحسرا يخلفه فراق من نحبه، شبيها بفطام صبي بعد شغف القرب والوصال، لا يهدأ من روع الشوق وحسرة الفطام عند المؤمن سوى الانتشاء بصيامه والتعبد لله الواحد فيه، والفرح الموعود في قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه”.
كيف يتحول العام كله إلى رمضان؟ وكيف ترافقنا أنواره دهرنا كله؟
كان ديدن صالح السلف الحرص على هذه الطلبة حتى لا تضيع منهم أنواره في غمرة الكدح اليومي والعناية بشؤون المعاش الذي كان عندهم عبادة مقصودة مرغوبة أداء لواجب الاستخلاف وعناية بمن استرعاهم الله.
كانوا يودعون رمضان ليلاقوا شهر العيد بالفرح والحبور، والغبطة والسرور أن أتم الله عليهم فضله فبلغوه وصاموه وسلموه للكريم بعد أن سلمه لهم استجابة لدعائهم عند استهلال شهره، روى الطبراني رحمه الله تعالى في الدعاء عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: “كان المسلمون يدعون عند حضرة شهر رمضان: اللهم أَظَلَّ شهر رمضان وحَضَر فَسَلِّمْهُ لي وسلمني فيه وتسلمه مني، اللهم ارزقني صِيَامَه وقِيَامَه صبرًا واحتسابًا، وارزقني فيه الجدّ والاجتهاد والقوة والنشاط، وأَعِذْنِي فيه من السَّآمَة والفترة والكسل والنُّعاس، ووفِّقْنِي فيه لليلة القدر، واجعلها خيرًا لي من ألف شهر”. يحسنون الظن بمولاهم الكريم، ويرجون ما عنده.
وما أن تمر فرحة العيد حتى يجمعوا العزم والهم لصيام الست من شوال جبرا للكسر وإتماما للنقص وحتى يكتبوا كمن صام الدهر كله كما عند الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَن صام رمضان ثم أتبَعَه ستًّا من شوَّال، كان كصيام الدهر”، وفي رِوايةٍ: “من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة ﴿ مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾” التتابع فيها غير مشروط، والسعة فيها أنها تشمل الشهر كله لا مبتدأه فحسب، وإن كان البدار إلى الطاعة أولى وأجدر.
صيام يبقى عندهم موصولا بصيام التطوع طيلة السنة التماسا لمواسم الخير وأوقات الفضل، وطمعا في الزلفى وحسن مآب، وعملا بوصية العدنان عليه أزكى الصلاة والسلام: “مَن صام يوماً في سبيل الله، باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام”.
يكثرون من الطاعات وسائر العبادات ويصلون الأرحام ويكرمون الأيتام وينورون الأفهام بالعلم، دون أن يغفلوا إلى عبادة الجوارح، عن أعمال القلوب، يختزلون بذلك المسافات، ويتقربون إلى رب الأرض والسماوات، ويعتنون بالمضغة التي عليها مدار القبول وصلاح الأعمال، يقينهم كما عبر عن ذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: “فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبات الأبدان وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات، فتراه يتحرَّج من تركِ واجب من واجبات الأبدان، وقد ترك ما هو أهمّ واجبات القلوب وأفْرَضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريماً وأعظم إثماً”.
يحرصون على تحقيق غاية الصيام المتمثلة في التقوى من خلال الحرص على الطاعة والدعوة إليها، والابتعاد عن المعصية ومجها، يستحون من الله تعالى حق الحياء: روى الإمام الترمذي رحمه الله تعالى وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استحيوا من الله حق الحياء. قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك استحيا من الله حق الحياء”. لأنهما لا يجتمعان على وجه الكمال، قال المناوي رحمه الله: “لأنهما ضرتان، فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى”.
لا يتركون ذكر الله ولا يهجرون قراءة كتابه، هاديهم قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى أبو الدرداء رضي الله عنه: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل”.
ولما كان حسن الخلق مطية الخلق إلى الخالق، وسبب القرب وعنوان المعية، فإن همة المؤمن والمؤمنة دائمة التعلق بهذا الحبل المتين رحمة بالخلق عيال الله، وإغاثة لملهوفهم، وإحسانا لمحتاجهم، ورحمة بصغيرهم، وتقديرا لكبيرهم، وإكبارا لعالمهم، وتهمما بأحوالهم فرعا عن التهمم بأحوال أمتهم.
لا يغفلون في كل أحوالهم عن صحبة موجهة دالة على الخير ومعينة عليه، تحملهم وتحمل عنهم، لفضلها وُجه إليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.
إنه حال المؤمن والمؤمنة السالكين إلى ربهما، المتشوفين إلى ما عنده، يدركان أهمية تعاقب الأوقات والشهور، ويوقنان أن للشهر الفضيل من الخصوصية ما يحملهما على غنم شهوده، وحفظ غنائمه، دون أن يغفلا عن التعرض لنفحات الله في سائر دهرهما وبما يوافق شروط التربية المتوازنة.
تقبل الله منا ومنكم، وكل دهركم وأنتم إلى الله أقرب.