كورونا .. ومشاعر الغضب

لا يوجد مخلوق لم يشعر بالغضب يوما، ولم تنتبه قط تلك المشاعر التي يضيق معها صدره. مشاعر قد تزداد وتتضاعف بتغير المثيرات الكثيرة التي تفرضها المواقف الحياتية المتنوعة من خلافات وضغوط نفسية.
ظرفية الحجر الصحي، والحرص على تطبيقه تحقيقا للسلامة الفردية والمجتمعية، وما تفرضه من التزام للبيوت، بيوت متباينة في مساحاتها الحسية والمعنوية، مع أناس هم أحب الخلق إلى القلب بعد الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، كانت بمثابة المرآة التي كشفت عن مدى توهمنا السابق بمعرفتنا الكاملة بأهلينا وذوينا؛ معرفة طباعهم، وأنماط شخصياتهم، وتباين سلوكياتهم…
بل أكثر من ذلك؛ فهذه الظرفية كشفت عن مدى توهمنا بمعرفة أنفسنا، ومدى إدراكنا لحقيقة تصرفاتنا، ووعينا بصحة ردود أفعالنا، وبذلك فلو لم نفز في هذا الحجر إلا باكتشاف هذه الحقيقة والعمل على استثمارها لكانت أكبر منح هذه المحنة.
مع توالي أيام الحجر، نجد أنفسنا أمام مواقف أسرية كثيرة، تجعل من الإحساس بالغضب ضيفا طويل المقام بيننا رغم الرغبة الصادقة في عدم استقباله.
فهل هذا إحساس منكر حقا؟
في كثير من المواقف نلوم أنفسنا كما نلوم غيرنا على هذا الإحساس، والسبب راجع بالأساس لما تم تخزينه في وعينا منذ الصغر من صفات ونعوت تشين وتقدح في الغضب، والتي في حقيقتها ذم للسلوك الانفعالي المصاحب لهذا الشعور، وهذا ما يجب الانتباه له.
فرسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والسلام لم ينكر على سيدنا علي كرم الله وجهه غضبه حين خرج مغاضبا الزهراء رضي الله عنها قاصدا المسجد، بل ناداه ممازحا “قم أبا تراب” (1).
ولم ينكر على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها غضبها عندما كسرت الإناء في حضرة الصحابة، بل تلطف بها في غضبها قائلا: “غارت أمكم” (2)، مرققا قلوب الصحابة مذكرا إياهم برفعة مقامها، مقام أم المومنين، لتقبل سلوكها.
كما لم ينكر عليها غضبها عندما جاء اليهود يلقون تحيتهم مرددين: “السام عليكم” (3).
بل أكثر من ذلك لم ينكره على نفسه الشريفة، فقد ورد في الحديث: ((عن أبي سعيد الخدري قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه، عرفناه في وجهه، ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل: هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه صلى الله عليه وسلم، وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أنْ قال: قد أوذِيَ موسى بأكثرَ من هذا فصبر)).
الشعور في حد ذاته أمر فطري، جبل الله عليه الإنسان، حفاظا على حياته أولا وعلى كرامته ثانيا.
فكيف يجب التعامل معه إذن؟
لنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم القدوة الطيبة والأسوة الحسنة.
لقد ذهب صلى الله عليه وسلم باحثا عن سيدنا علي ولم يأمره بالقدوم إليه، تقديرا للحالة النفسية التي كان عليها كرم الله وجهه.
كما أمر بإناء من بيت التي كسرت مثله، وطلب من الغلام إعادته لمن بعثته من زوجاته، رضي الله عنهن أجمعين.
وفي من دعا عليه بالسام، فقد كان جوابه عليه السلام بليغا في حكمته رفيقا في رده؛ “وعليكم”، حاثا زوجه الكريم على التزام الرفق منبها إياها لاجتناب العنف في الفعل والفحش في القول، مطيبا خاطرها بقوله: “فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في”.
مواقف كثيرة يعلمنا فيها حبيبنا الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم كيف نرتقي ونتدرج في تعاملنا مع أحاسيسنا لتكون سلوكياتنا على مستوى عال من الرقي، رقي ينهل من معين “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.
في حديث “اللهم هذا قسمي في ما أملك فلا تلمني في ما لا أملك” دليل واضح على أننا لا نملك اختيار مشاعرنا، وفي حديث “ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” دليل آخر على قدرتنا على التحكم فيها.
وفي تعاملنا مع هذا الضيف الثقيل، خلد لنا الرسول الرحيم خطة محكمة متدرجة؛ من تعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتغيير الوضع من الوقوف للجلوس ثم الاضطجاع ووضوء وحث على الصمت أو مغادرة المكان، ما به نصوب ونقوم ما كشف الحجر عنه من اعوجاج في ردود أفعالنا.
لك منا أفضل الصلاة والسلام يا خير الورى.
الهوامش:
(1) روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح به إذا دُعِيَ بها، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة عليها السلام، فلم يجد عليّاَ في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج فلم يقِل (ينم وسط النهار) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شِقِّه (جانبه) فأصاب تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه وهو يقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب (أي: يا أبا تراب. وفي رواية مسلم: (فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شِقِّه، فأصابه ترابٌ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قُمْ أبا التراب! قُمْ أبا التراب!).
(2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة (إناء) فيها طعام، فَضَرَبَتِ التي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت) رواه البخاري.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، قال: أظنها عائشة، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، قال: فضربت الأخرى بيد الخادم فكسرت القصعة نصفين، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: غارت أمكم، قال: وأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام، ثم قال: كلوا فأكلوا)، وأغلب روايات هذا الحديث وردت مُبْهَمَة بلفظ: “عند بعض نسائه” وإن كان قد ورد في بعضها أنه في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو الذي عليه شُرَّاح الحديث.
(3) حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة – رضي الله عنها – أن اليهود أتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: السام عليك. قال: “وعليكم”. فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله وغضب عليكم. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف” أو “الفحش”، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: “أو لم تسمعي ما قلت؟! رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في”.