كورونا وأسئلة المعنى والمآل

إن ما تعيشه الإنسانية اليوم لأمر فريد لم يكن ليخطر على بال بشر. في غضون أسابيع انقلبت الأولويات واختلت الموازين ورفع ما كان مبتذلا، وابتذل ما كان مرفوعا. تغيرت السلوكيات قسرا، وامتلأت العقول حيرة، واهتزت المشاعر قلقا وخوفا واضطرابا. لقد تغير الزمن فجأة دون سابق إنذار، إنه زمن كورونا.
ما قبل كورونا
قبل ظهور وباء كوفيد 19 كانت الإنسانية في غالبيتها إما تعيش الحضارة الحداثية أو تتغنى بها منبهرة حالمة. حضارة قائمة على الخضوع لقانون العقل البشري، ثائرة على كل مقدس إلاهي، مقدسة لكل متعة ومنفعة مادية، مفتقدة للقيم والأخلاق، معتدية على البشر وعلى الشجر والحجر.
إنها حضارة الأشياء؛ شيأت الإنسان فجعلت أسمى قيمه جمال جسم امرأة أو صخب مغني أو إنجاز رياضي. يكسب المغني في ليلة واحدة ما يكفي لإطعام بلدة بكاملها، ويفوق أجر لاعب واحد لكرة القدم مجموع أجور أطباء البلاد.
في ظل الحضارة المعاصرة، دمر الإنسان الغلاف الجوي، واتسخت الأرض، وتداخلت الفصول، واختلت التوازنات البيئية، أصبح الإنسان ينتج فوق ما يحتاج، فالإشهار يولد الحاجة ويزيد في الاستهلاك وفي التلويث.
إنها حضارة سلبت من الإنسان جوهره ولبه ومغزى حياته، ومن الكون توازنه ونظامه، ولم تسلم منها حتى بعض المفاهيم، حيث زورت معانيها ودنست، فها هي الكلمة الرنانة لكل الآذان، اللصيقة بلب كل ذي بنان، تسرق منها قدسيتها على مرأى ومسمع من العالمين، لم تعد كلمة حقوق الإنسان يقصد بها الحق في الكرامة والعدالة والحرية، بل يصرون على تحريفها إلى استباحة الفضاء العام والاعتداء على حرية الآخرين ببث ممارساتهم الهادمة لمعاني العفة والأخلاق والحياة الأسرية.
وسط هذه الصورة القاتمة تتعالى أصوات رافضة مناهضة من هنا وهناك، ما تلبث أن تنعت بالرجعية إن كانت مسلمة، أو تلقى الإبعاد إن كانت من وجهاء الغرب.
من هذه الأصوات الفيلسوف جيل ليبوفتسكي الذي ذكر أنه قد «توقفت مجتمعاتنا الاستهلاكية التواصلية عن التمجيد المنتظم للوصايا الصعبة وأصبحت منذ الآن تشتغل خارج دائرة الواجب، خارج نطاق الفريضة الأخلاقية الصارمة المنضبطة، ذلك هو عصر ما بعد الأخلاق، عصر الديموقراطيات الجديدة” (1).
ويستمر في نقد مجتمعات ما بعد الأخلاق، فيقول في نفس الكتاب: “وبينما تنهار المؤسسات التي تقوم عادة بوظيفة التحكم الاجتماعي، تتشكل غيتوهات حول الأسرة بدون أب أو تجارة المخدرات أو العنف أو الانحرافات الخطيرة. هكذا أصبح عدد كبير من الناس يؤمنون بأن عصر ما بعد الحداثة يفرز فردانية لا يحكمها أي قانون، فردانية تائهة متحللة لا مستقبل لها” (2).
وينتقد المفكر جون ماري جيهينو الإنسان المعاصر قائلا: “إنه مجبر – باعتباره إنسانا يفتقر إلى المعنى – على أن يصبح مجرد علامة تعيش في عالم العلامات الخالية من الدلالة، فيتحلى بصفات واضحة تلحقه بقطيع محدد الهوية؛ إما لاعب طاولة أو متسلق جبال أو لاعب غولف” (3).
ورغم نداءات فضلاء العصر بضرورة مراجعة أسلوب الحياة المعاصرة، وما يحيط به من تهديدات، إلا أن هذه النداءات تبقى مجرد أصوات لا تتجاوز صفحات الكتب وأروقة الندوات، ويبقى الإنسان الحداثي مشدوها أمام إبداعاته، متخما بالمعلومات التي تطلعه على كل شيء إلا نفسه التي يجهلها. تمده العلوم الطبية بكيفية اشتغال آليات جسده، لكن لا خبر لديه عن اتجاه رحلته في هذه الحياة، يعيش ويحيى وهو لا يدري لماذا، يسمع ويرى كمال خلق العالم ولا يستنتج من الصنعة وجود الصانع.
حضارة الأشياء والمتعة الاستهلاكية والإعلام المفتوح قد ألهى الطبيعة البشرية والعقل البشري عن التفرغ الكافي ليتأمل كل واحد وجوده ويتفكر في مغزاه. فيبدو الإنسان المعاصر مستسلما لحياة فارغة من كل معنى، متجنبا للسؤال البديهي لم الحياة؟ كابتا له مخادعا نفسه، متسليا لعله ينسى، ويبقى في أعماق كل ضمير انتظار نداء مخلص وصوت منقذ، يخبر الإنسان التافه أن لوجوده غاية ومعنى.
زمن كورونا
في خضم حياة تافهة تأله العلم وتتحاشى الحديث عن معنى الموت والحياة، جاء وباء كوفيد 19 ليضع البشرية أمام الموت مباشرة. أصبح العالم يحصي موتاه كل يوم، ويصارع من أجل البقاء، إما بحثا عن الدواء للمرضى أو حجبا للأصحاء عن العالم الخارجي اتقاءا للمرض وخوفا من الموت.
لقد تغير الزمن فجأة وتغير معه الناس والأحوال. لم يعد الحديث عن الموت عيبا ولا تخلفا، ولا حتى علامة على مرض نفسي. لم يعد العلم إلاها معبودا، ولا قوله يقينا جازما، ولا الاعتقاد فيه دينا مقدسا، بل أصبح العلماء يقرون أمرا اليوم لينقضوه غدا، تناقضات عدة حول أصل الفيروس وأشكاله وخصائصه، وحول المؤسسات العلمية ومدى نزاهتها وموضوعيتها، أسقطت العلم من هذيان اليقين المقدس إلى حقيقة النظر البشري القاصر.
زمن كورونا أسقط دعوات النزعة الفردية، وأبان عن سمو الأخوة الإنسانية والتضامن الإنساني والبذل البطولي. هي فطرة في أعماق كل إنسان حاربتها الحضارة الحداثية وطمستها، وأيقظتها الأزمة تلقائيا دون تفكير و لا تعليل. ميل طبيعي وفطري وممتع لمساعدة الغير، للمخاطرة بالنفس من أجل الغير، لاقتسام ما نملك مع الغير، إنها لحظة انتعاش للإنسانية التي أصبحت تعيش نفس المصير في غالبيتها، نفس الضعف الإنساني، ونفس الاحتياجات.
زمن كورونا علم الإنسان المستغرق في الاستهلاك، أن جل مشترياته كانت عديمة الجدوى ويمكن الاستغناء عنها.
زمن كورونا منح للإنسان المعاصر وقتا كافيا ليختلي بنفسه، فهل ينجح في التعرف على ذاته وعلى احتياجاته؟ هل ينجح الإنسان الحداثي الذي ألف الانشغال عن الذات وسط زحمة الأوقات والانشغالات في تحرير الأسئلة المكبوتة المخنوقة حول مغزى الحياة ومعنى الممات؟
إن كانت مشاعر الخوف والقلق والاضطراب هي السمة الغالبة لهذا الزمن؛ زمن كورونا، فإن تتبع هذه المشاعر يسير بنا نحو ملتقى واحد: قلق الموت وهاجس المصير بعد الموت. فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي تعم كل إنسان مهما اختلف الزمان والمكان، لا يجرؤ أحد على إنكارها، ولا قدرة لأي كان على التهرب من مآلها، إنها قرينة الوجود الإنساني، فكيف يقبل عاقل بإمكانية تفادي مآل هو سائر إليه حتما، والهروب من التفكير في مآل حتمي؟
إن سير الإنسان إلى حتفه يجعل من سؤال الموت جزءا من الكيان النفسي الإنساني، قد يواجهه الإنسان ضمن حواره الداخلي، وقد يهرب منه بأساليب متعددة. مواجهة سؤال الموت يقتضي البحث عن الأجوبة المناسبة التي تعطي للوجود مغزى وللحياة طعما وللموت نفسه معنى. والهروب من السؤال محاولة فاشلة، لأن سؤال الموت هو جزء من الذات، ولا أحد يستطيع الهروب من ذاته. محاولة الهروب خطوة فاشلة تعود على شكل مشاعر القلق والاضطراب والخوف المرضي. مهما اختلفت هذه المشاعر و تناقضت وتشابكت، فإن مردها إلى هذا الملتقى الذي يشكل بداية الطريق للبحث في معنى الحياة، من خلال اندفاع مباشر وبحث فوري عن الخالق، ثم إدراك فطري دون حاجة لاستدلال عقلي فلسفي، فمهما بلغ منطق العقل الفلسفي وحدسه فإنه يقف حائرا عاجزا عن صياغة براهين وجود كائن متعال، يمثل علة الكون ومغزاه.
إن الإيمان بأن لهذا الكون الزاخر بالألغاز خالقا لا يكفي ليكون للحياة معنى وغاية، فمعرفة الإنسان أنه مخلوق من مخلوقات الله، هي فقط نقطة انطلاق لإدراك أن الموت لقاء الله، وأن بعد الموت حياة أخرى هي التي تقود حياته وسلوكه في الدنيا، وأنه لا سبيل لمعرفة عالم ما بعد الموت وكيفية الاستعداد للحياة الأخرى إلا عبر مصدر واحد للمعرفة وهو الوحي، الذي هو كلام الخالق الموجه إلينا عن طريق رسله عليهم السلام، الذين تلقوا الوحي جميعا، لكن أتباعهم لم يدونوا تعاليم الوحي إلا بعد وفاتهم فلم تسلم من التحريف، ليبقى القرآن وحده متفردا من التزوير محفوظا من رب العالمين.
إن الأجوبة الشافية للأسئلة الملحة نجدها في “كتاب الله الكريم الذي يتضمن أربع مواضيع أساسية؛ صفات الخالق تعالى، ورجعة الإنسان بعد الموت، ومهمة الأنبياء عليهم السلام، ثم مكابدة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، واستحقاقه بعدها للجزاء أو العقاب” (4).
يخبرنا القرآن الكريم أن الحياة الدنيا امتحان، وأن الغاية من الوجود الدنيوي هو اجتياز الامتحان تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا (الملك، 2).
فالامتحانات تتتابع، ويتجه الجميع أشخاصا ومجتمعات نحو الموت، و السعيد من لم يلهه المتاع أو المصيبة عن الحق، السعيد من عقد العزم على إرضاء ربه وعمل لبلوغ هذه الغاية، فـمَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (الإسراء، 18- 19).
يخبرنا القرآن الكريم عن العلاقة بين الإنسان وخالقه، وعن العمل الصالح الضروري لكي يرتقي الإنسان في هذه العلاقة، ويستحق السعادة الأبدية، سعادة تبدأ من الحياة الدنيا حين يزهر القلب المومن بأنوار حب الله وحب رسوله فيثمر حب الخلق أجمعين. وأنه انطلاقا من هذه العلاقة تعالج العلاقات الأخرى الاجتماعية و لاقتصادية والأسرية و لسياسية.. وكلها علاقات يريدها الإسلام أن تكون قائمة على التكريم الإنساني وعلى التسامح.
إن التعرف على أسرار القرآن وعلى أجوبة القرآن وكنوز القرآن عبر القراءة المتأنية له، يقتضي من الإنسان المشتت المشارب والهموم أن يجمع همه نحو بوصلة حياته: غاية وجوده، فيخصص الوقت الكافي للتركيز وتعميق الأفكار وطرق باب الله تعالى بالدعاء والاستعانة، وإنها لفرصة ثمينة ودعوة حانية وفرتها ظروف الوباء التي أقلعت الإنسان من دوامة الانشغالات، ومن مستعجلات الحياة إلى القعود في البيت، فهل من مستجيب؟
الهوامش:
(1) la société en quête de valeurs (livre collectif), p 25.
(2) نفس المصدر، ص 26.
(3) Jean-Claude Kaufmann, la fin de la démocratie, p 114.
(4) عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 187.