قطوف من كتاب سنة الله للإمام ياسين (1): القبول الإيماني والاحترام العملي

قطوف يانعة بها الجمال تجلى
قواعد جازمة عليها الأحكام تبنى
سنن كونية فيها الشروط تحصى
درر ثمينة من المصحوب تهدى
اتباع حثيث من الصاحب يرجى
القبول الإيماني والاحترام العملي فرعان من أصل ثابت، وجذع نابت، يسقى من نبع صامت، زاخر بالعطاء الملفت.
يقول الإمام المرشد عبد السلام ياسين “سنة الله في التاريخ، ولن تجد لسنة الله تبديلا. مهما كانت الوسائل المتاحة في العصر فإن حركية التاريخ لا تتغير لثبات الفطرة الإنسانية المغروزة في النفوس، وثبات الحاجـات الاقتصادية للإنسان، وثبات الدوافع الاجتماعية والسياسية والاستكبارية التي تجمع الفئات العرقية والقبلية” 8.
يشخص لنا الحبيب المرشد سنة الله منطلقا من عطاء الله ونعمه سبحانه: “خلق الكون على نسق قدره في أزله تقديرا، وسوّى العباد على ما قضاه علمه فيهم ثم هداهم السبيل. كل ميسر لما خلق له، فمنهم شقي صار إلى دار العذاب بما اقترفت يداه، ومنهم سعيد دخل الجنة بفضل مولاه. إن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. سبحانه خلق أعمال العباد برحمته ودعاهم رسله للإيمان والعمل الصالح لتجزى كل نفس بما كسبت وليحيق بها ما اكتسبت. كور سبحانه وتعالى على العباد الليل والنهار، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى عنده. وجعل لنا في الأرض معايش وفي السماء رزقا، وسخر لنا ما فيهن جميعا منه. نحمده على نعمه الجُلى” 9.
إنه تصور جامع مانع شامل ملم للرسالة الربانية والسنة الكونية، إنها قطوف يانعة من سنن المصطفى المحبوب وحوض التابع المصحوب.
وإنها أنا … التائهة في الهوج والمرج، الباحثة عن الخلاص والفرج، أتساءل: كيف ننظر لتاريخ البشرية ولسنة الله في الكون؟
يصنف لنا الإمام المرشد أنماطا من الاختيارات ذات التصورات المختلفة باختلاف المنابع والمقاصد.
هناك “التصور الدهري للتاريخ يمثل الأحداث نهرا جاريا بالحضارات يصب في بحر العدم”. لا سنن كونية، ولا رقيب ولا حسيب، كسب واكتساب، ولهف على الدنيا ومتاعها وصراع القوى وأصحابها: معيارية مادية للحياة الفانية وأبنائها.
وهناك “الخروج من المجتمع والهروب إلى الخَلوات، كان ولا يزال اختيار كثير من الصوفية أكرمهم الله.” فضلوا الانزواء الكلي وانشغلوا بالغذاء الروحي.
لكن تصور الحبيب المرشد كان واضحا جليا، قاصدا ومختصرا، جامعا مانعا في قوله: “إننا نبحث عن الإحسان والإيمان والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى ونَيل مقامات الكمال. لم نحِدْ عن المطلب الإحساني بالدخول في سنة الله. بل يكون طلبنا لهذه المقامات أشبه بطريق الرسل وألصق بنموذج الرسل وأليق بواجبات الجهاد إن قبلنا إيمانا وتصديقا بسنة الله، واتبعنا عملا وجهادا وصبرا ومكايدة ومدافعة سنة رسل الله. عليهم صلاة الله وسلام الله” 10.
لسنن الله شروط، متى تحققت كان العطاء. ولقدر الله حكم، متى قبلت كان الصفاء. واللبيب من تتبع سنن الله في الكون وفهمها، واجتهد في تحقيق شروطها. وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، تفضلا وزيادة من رب الأكوان.
من عطاء الله وفضله أن منّ على أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلام الاستخلاف في الأرض متى تحققت له شروط سنة الله. قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (سورة النور: 55).
عطاء مشروط وحق موهوب وعلم مفروض، الاستخلاف في الأرض وعد من الله لمن كَدَّ واجتهد في تحقيق الأسباب. وجمع بين الثنائي المتصل الواصل، والسبب المنقذ الفالح، إنه الإيمان والعمل الصالح.
حكمة الله وسنته في الكون، يقول الإمام ياسين رحمه الله: “لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولما كان من الأمة انتكاسات وانكسارات وانهزامات، ولو شاء لرفع قانون الأسباب أمام رسله وأوليائه. لكنها سنته التي لا تتبدل، ووعده المشروط بالإيمان والعمل الصالح، لا استخلاف ولا تمكين إلا بتوفرهما” 11. “ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر” 12.
كيف السبيل لتحقيق التمكين؟
من جملة ما كان يسعد الحبيب عبد السلام ياسين أن يجد في صحيفته أناسا محسنين كان لهم الدليل، وقال لهم: من هنا الطريق من هنا البداية.
في باب التمكين في الأرض دلنا الإمام المرشد على خريطة الطريق، ونقطة الانطلاق، لتجنب الهلاك حيث قال لنا: “لمستقبل الإسلام يتحتم قبول الشروط التي وضعها الله عز وجل في المجتمعات البشرية واحترام قوانينه في التاريخ والتعرض بذلك لوعده بالنصر. قبول إيماني واحترام عملي هما ضمان النجاح” 13. فالقصد والفلاح يبنيان على أسس متينة: قبول إيماني واحترام عملي، ثنائية مؤصلة ومفصلة، وقاعدة مسنونة ومأذونة.
“علمنا القرآن ذلك بالتقرير والقصص ومثلات الذين خلوا من قبلنا وأنباء الرسل. القبول الإيماني يصل دنيانا بآخرتنا ويربط مصيرنا في الآخرة بأعمالنا هنا. والاحترام العملي يثبت أقدامنا على الأرض، ويضع في أيدينا وسائل القوة التي أمِرْنا بإعدادها، ويعطينا مواصفات المؤمنين المجاهدين الذين يستخلفهم الله في الأرض ويمكنهم فيها رغم قوة من يريد أن يستَفزهم ويخرجهم منها” 14.
كلمة صادقة، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به. والحمد لله رب العالمين.
[2] نفسه.
[3] نفسه، ص 8.
[4] نفسه، ص 12.
[5] رواه جماعة منهم الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه.
[6] نفسه، ص 8.
[7] نفسه.
[8] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 7، النسخة الإلكترونية.
[9] نفسه.
[10] نفسه، ص 8.
[11] نفسه، ص 12.
[12] رواه جماعة منهم الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه.
[13] نفسه، ص 8.
[14] نفسه.