قراءة في كتاب الإحسان.. فقرة البذل والشكر

تندرج فقرة البذل والشكر ضمن الفصل السادس من كتاب الإحسان، ذلك السِّفر التربوي الموجه للإنسان في طريق سلوكه الواصل إلى ربه جل وعلا. الإنسان الراغب في اقتحام عقبة النفس والأهواء، ليخلص الوجهة إلى الله علما وعملا، متحررا من ثقل أنانيته، ونوازع نفسه إلى رحاب معرفة الله والأنس بالله والنفع لخلق الله.
بعد أن تتبع الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى فيما سلف من الفصول ما ينفع طالب الحق من وجهة صلته بالله ذكرا ودعوة واستغفارا ومحبة وتقربا، لينتقل ابتداء من هذا الفصل، إلى الحديث عن طالب الحق وهو يصارع النوازع النفسية الاجتماعية التي تكدّر صفوه وتُـعَوِّصُ سيره وتَغلبه على وجهه، يريد هو الله وتريده الدنيا والنفس والشيطان لغير الله.
بنفَس إحساني يبدأ الإمام المرشد رحمه الله الفقرةَ بالدعاء عرضا للافتقار إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شيء، ويختمه برقائق الشعر المحفز المنهض للهمم، ويتناول البذل والشكر في بُعدهما الإحساني وارتباطا بقضايا وإشكالات الواقع ونجملها حصرا في ثلاث:
أولا بسط القضايا
وهي متعلقة بأمور ثلاثة إجمالا:
1- افتقاد الحضارة الغربية للعمق الإنساني والمجتمع الأخوي الصديق للإنسان إلا من بعض نثرات الإحسان.
2- افتقاد الإسلام الفكري للروح حينما يقدم نفسه منقذا أرضيا للبشرية من مخالب الحضارة الغربية بعيدا عن هم الآخرة.
3- غريزتا حب المال والحرص على جمعه وحب الجاه والرئاسة جُماع الشرور الاجتماعية، كيف نعالجها بتعويد النفس على البذل والعطاء وتطهيرها من الشح أداء لواجب شكر المنعم تعالى.
التأصيل
يورد، رحمه الله تعالى، في التأصيل شواهد منها قول الله تعالى من سورة سبأ في الدلالة على شكر العمل: اعملوا آل داوود شكرا، وقليل من عبادي الشكور (سبأ، 13) وفي شكر من أحسن إلينا من الناس يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ الناس” (1).
يميز بين درجتين من المخاطبين بالخطاب الشرعي بالبذل:
أهل الإسلام والإيمان الذين يُدعون إلى البذل من باب الوعد والوعيد، والصفوةُ من الخلق من العباد الأحرار من رق الأرض والأكوان، عبادُ الرحمن الملبون للنداء الإلهي الذي نطق به الحديث القدسي الذي رواه الشيخان: “يا ابن آدم! أَنفقْ أُنفِقْ عليك!”. ليؤكد رحمه الله تعالى أن البذل تحرك تلقائي للنفوس الأصيلة المتحررة من الشح، القاصدة وجه الله.
حقيقة الشكر
وفي ربط عجيب بين الشكر والبذل، يبين حقيقة الشكر فيربطها بـ:
العمل الصالح: وهذا عمل القليل من المؤمنين المحسنين الشاكرين والعاملين الباذلين شكرا.
البذل ابتغاء وجه الله تعالى شكرا على العطاء: على نعمة الهداية وهدية الجزاء الأوفى في دار الخلود في رضى الله والنظر إليه، ويعتبرها المرتبة العليا، يقول رحمه الله تعالى: “أيُّ كرم أجل من كرمه تبارك اسمه، النعم منه إليه، خلقك وأعطاك ورزقك ثم استقرضك واشترى منك! ماذا عندك من كِفاءٍ لفضله إلا أن تصرف العمر شكرا!” (2).
شكر الناس إحسانا: كما أمر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن نشكر من أحسن إلينا من الناس أدبا وتأليفا للقلوب وتشجيعا لمن يحب المحمدة أن يسمعها، وعبادة وتذكيرا بالمنعم الحقيقي سبحانه (3).
العلاج
ويطرح، رحمه الله تعالى، بعد التوصيف العلاج من خلال:
1- إحياءِ المجتمع الأَخوي المؤسّس على لحمة التآخي والتحاب والرحمة والعطاء احتسابا لوجه الله، بخلاف المجتمعات المرتبطة برباط القانون الجاف المبنية على الفردانية والأنانية المفرطة والأثرة، أو تلك التي يبشر بها الإسلام الفكري المؤسّسُ على بناء أرضي والمفتقد للروح، والذي يقدم نفسه منقذا أرضيا للبشرية من مخالب الحضارة الغربية: “يأتي المجتمع الأَخوي الذي تنشده البشرية ويملك الإسلام سر إقامته، وقواعد بنائه، ومخطط نشره، ونصائح المحافظة عليه هدية إلهية ثانوية تتفرع عن الهدية العظمى هديةِ الهداية والسعادة الأبدية في الدار الآخرة. تتفرع عنها وتكملها، بل تكون فضيلةُ المحسن إلى خلق الله في الدنيا قربةً سعادية عظيمة في الأخرى” (4).
2- استحضارِ غاية بعثة الرسل عليهم السلام المبنية على إصلاح آخرة الأفراد من خلال نفع خلق الله: “ما بعث الله الرسل لإصلاح دنيا الناس وانتهى الأمر، لكن بعثهم لدعوة الخلق إلى مأدبة الآخرة. وما أمر به الله على لسان رسله من إصلاح دنيا المجتمعات البشرية فالقصد منه إصلاح آخرة كل فرد فرد من المؤمنين والمؤمنات ساهم بإخلاص وصدق وعطاء وإحسان في إكرام خلق الله، وإطعام خلق الله، وإيثار خلق الله بذات اليد وذات النفس” (5).
3- اكتسابِ العمق الإحساني، ومحاربة الأنانية والشح وجفاءِ العلاقات؛ من خلال المجالس الإيمانية والاشتغال بالذكر وقراءة القرآن وتدبره والصحبة باعتبارها شرطا فاعلا: “مفتاح أقفال القلوب الإنسانية “الإسلام ومجالسة الإخوان وتعلم الإيمان وتدبر القرآن وصحبة الله ورسوله والمؤمنين العارجة إلى مقامات الإحسان، من انفَتحت له بهداية التوبة نافذة الإسلام انحلت عقدة من عقد قلبه، ثم يُفتح له باب الإيمان فيُشرِف على طمأنينة الذكر والصدق فينحل قفل الحرص على المال والرئاسة، ويشغله حب الله ورسوله والشوق إلى لقائه عن توافه الدنيا وشهواتها فيزهد ويتوكل ويبذل. ثم يفتح له أفق الإحسان فيطلق الدنيا جميعا، يفرغها من قلبه، فلا يفرح بعدها إلا بالله، ولا يعمل إلا لله، شكرا لله، وتقربا إلى الله، ويقينا أن مردَّنا إلى الله” (6).
4- إعادةِ الاعتبار للروابط الإنسانية مع صدق التوجه إلى الله تعالى، والتحرر من رق الدنيا بمحاربة شح النفس وشكر الله من خلال أداء حقوق المال فرضا ونفلا: “ترقى المؤمن المحسن في خدمة مولاه فحرره سيده من رق الدنيا ووعده هوادج الكرامة فهو لا يستميله الغنى والجاه. علم أن المنعم سبحانه رزاق في الدنيا والآخرة، وعلم أن الدنيا لا تساوي عند الكريم العلي الحكيم سبحانه جناح بعوضة، فهو لا يقيم لها وزنا إلا من حيث كون العمل فيها، والكسب، والبذل، والزكاة، والصدقة والجهد والجهاد، والعبادة جميعا واسطة لنيل خير الآخرة ودرجات الوجوه الناضرة الناظرة” (7).
حذّر، رحمه الله تعالى، من أمرين:
1- الطمع فيما عند الناس وسؤال الناس واستجداؤهم، بذل التكسب الشريف كيلا يكون ثمن الكفالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي الأخوي، مجتمع العدل والإحسان، إِراقة ماء الوجه وذلَّ المسألة وهوانَ التطفل. قال صلى الله عليه وسلم: “لأن يحتطب أحدكم حُزمةً على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه” رواه الشيخان عن أبي هريرة.
2- البناء على غير أساس من الذكر والقرب والعمل طاعة لله، يستدعي رحمه الله تعالى من كلام سيدي عبد القادر الجيلاني: “إذا كان البناء على أساس ثبَت ورسخ، وإذا لم يكن على أساس تعجَّل وقوعه. إذا بَنيت حالَك على أحكام الحكم الظاهر لا يقدر أحد من الخلق على نقضه. وإذا لم تبنه على ذلك لا يثبت لك حال، ولا تصل إلى مقام. ولا تزال قلوب الصديقين تمقتك وتتمنّى أن لا تراك” (8).
من أهم الخلاصات
ليس الشكر كلاما يلاك باللسان، إنما أعلى مراتبِه في العمل والبذل، وهو تمرة التربية الإحسانية التي تسخر عطاء الله تعالى في خدمة دينه وإسعاف خلقه من الأقارب والأباعد.
البذل برهان صدق السالك في طلبه وجه الله يعطي ما في يده تقربا إلى الله تعالى.
الإنسانية بحاجة إلى إحياء مجتمعات الأخوة.
حمل رسالة الإسلام للعالمين هو أبلغ تعبير عن الشكر، شكر البذل والعمل الذي امتدح الله به آل داود عليه السلام كما في الآية من سورة سبأ: “اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور”.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
(2) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1، ص 458.
(3) الإحسان، ج 1، ص: 459.
(4) الإحسان، ص 456.
(5) الإحسان، ص 455، 456.
(6) الإحسان، ص 457.
(7) نفسه.
(8) الإحسان، ص 460.