المرأة العاملة في المغرب بين الحماية القانونية وظلم الواقع

إن المساهمة في الحياة المهنية مكن المرأة في المجتمعات المتقدمة من المساهمة في المجتمع واستغلال قدراتها الإبداعية، والتمكن من الحصول على مصادر الربح والسيطرة عليها. وهذا الأمر منحها الاعتراف بها من لدن المجتمع من جهة، وساعدها على فرض نفسها واحترامها من جهة ثانية. لكن الأهم من ذلك هو أن خروج المرأة للعمل وفر لها إمكانية الانخراط في المجهود الجماعي، والتفاعل في المجتمع، ويعد من المؤشرات الرئيسية في تمكينها.
لكن في المغرب تبقى هذه الرؤية لمشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية محدودة في ظل غياب رؤية واضحة لتحقيق مساواة النوع الاجتماعي في ميدان العمل. فالمرأة الريفية مثلا رغم الدور الحيوي الذي تلعبه في العمل الفلاحي والمنزلي، إذ أنها تتكلف أحيانا في بعض المناطق بعدة مهام؛ كتربية الحيوانات والزراعة وقطف الثمار والري… إلا أنها لا زالت تشكل الفئة الأكثر هشاشة في الوسط الفلاحي، نتيجة ما تواجهه من إكراهات تحول دون استقلاليتها (ضعف التكوين التقني، ارتفاع معدل الأمية، صعوبة النفاذ إلى الأراضي، استغلالها…). رغم توفر المغرب على التشريعات التي تؤكد على مبدأ تكافؤ الفرص والشراكة بين الرجل والمرأة. وهو الأمر الذي يؤدي بالباحث إلى التساؤل عن مدى نجاعة قانون الشغل المغربي في حمايته المرأة العاملة؟
منذ سنة 2004 أصبح المغرب يتوفر على إطار قانوني يكرس مبدأ المساواة بين كل من الرجل والمرأة في مجال الشغل، ويمنع مختلف أشكال التمييز وذلك بما يتماشى مع المعايير الدولية. ويتضح ذلك من خلال المادة 9 من مدونة الشغل التي تنص على أنه: “يمنع كل تمييز من حيث السلالة، أو اللون، أو الجنس، أو الإعاقة، أو الحالة الزوجية، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو الانتماء النقابي، أو الأصل الوطني، أو الأصل الاجتماعي، يكون من شأنه خرق أو تحريف مبدأ تكافؤ الفرص، أو عدم المعاملة بالمثل في مجال التشغيل أو تعاطي مهنة لاسيما فيما يتعلق بالاستخدام وإدارة الشغل وتوزيعه، والتكوين المهني، والأجر، والترقية، والاستفادة من الامتيازات الاجتماعية، والتدابير التأديبية، والفصل من الشغل”. إذن فهذه المادة تنص على أن عنصر الجنس لا يمكنه أن يكون سببا لخرق مبدأ تكافؤ الفرص أو المعاملة بالمثل سواء في التشغيل، أو توزيع العمل، والتكوين المهني، والأجر، والترقية، والامتيازات الاجتماعية، وأيضا العقوبات التأديبية. كما تنص هذه المادة كذلك على حق المرأة في إبرام عقد الشغل، وحقها سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة في الانضمام إلى نقابة مهنية والمشاركة في تسييرها وإدارتها. كما أكدت المادة 346 من نفس المدونة على التساوي في الأجر إذا تساوت قيمة الشغل الذي يؤديانه، وهو المقتضى الذي ينسجم مع مقتضيات اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 111 بشأن التمييز في الاستخدام والمهنة (1)، والتي قام المغرب بالمصادقة عليها بتاريخ 27 مارس 1963. وهو مقتضى أساسي جدا تستفيد منه النساء بالدرجة الأولى إذا ما تم تفعيله، وذلك حتى لا يتقاضين أجورا تقل عن تلك الممنوحة لزملائهم الرجال عند تساوي قيمة العمل. هناك مقتضيات حمائية أخرى خاصة بفئة الأجيرات تضمنتها المدونة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المرأة، وأهمها مراعاة وضعية الأمومة. حيث خصصت المدونة فصلا خاصا بحماية الأمومة، مدرجة عددا من العناصر المهمة الواردة في اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 183 المتعلقة بحماية الأمومة والتي قام المغرب بالتوقيع عليها سنة 2011. وأهم هذه الحقوق انتقال عطلة الولادة من 12 إلى 14 أسبوعا، وإمكانية تمديد فترة توقيف عقد الشغل إذا تم الوضع قبل التاريخ المحدد إلى أن تستكمل 14 أسبوعا المستحقة، واستفادة الأجيرة بعد انتهاء إجازة الأمومة من إجازة لا تتجاوز 90 يوما من أجل تربية المولود بعد أن يتم إشعار المشغل داخل أجل أقصاه 15 يوما من انتهاء إجازة الأمومة، وإمكانية اتفاق الأجيرة مع المشغل على الاستفادة من عطلة غير مدفوعة الأجر لمدة سنة من أجل تربية المولود، وأيضا؛ لا يمكن للمشغل إنهاء عقد شغل الأجيرة أثناء الحمل، أو بعد الوضع بأربعة عشر أسبوعا، أو أثناء فترة توقف عقد الشغل بسبب نشوب حالة مرضية عن الحمل أو النفاس، وتمتع الأجيرة يوميا خلال 12 شهرا من تاريخ استئنافها الشغل إثر الوضع باستراحة مؤدى عنها الأجر لمدة نصف ساعة صباحا ونصف ساعة ظهرا قصد إرضاع مولودها. إلى غير ذلك من المقتضيات التي يتوخى منها عدم التأثر بوضعيتهن في العمل نتيجة الحمل أو الولادة أو الأمومة.
لكن رغم نص المشرع المغربي على عدم التمييز بين الجنسين في العمل من خلال مختلف النصوص المبينة أعلاه فإن هذه الترسانة القانونية التي تتماشى مع المعايير الدولية تظل قاصرة وغير فعلية (2) إذ لا يوجد أي إشارة لآليات التتبع والتنفيذ. كما أن هناك صعوبات ستعترض الأجيرة أو طالبة العمل عند محاولة إثباتها لتمييز المشغل بين الأجراء في الاستخدام أو الامتيازات الاجتماعية أو الأجر… فالمدونة جاءت خالية من أي إشارة لكيفية الإثبات في حال وجود تمييز. على عكس تشريعات أخرى متطورة مثل الفصل 1132 من التشريع الفرنسي الذي يلزم المشغل بإثبات أن قراره كان مبررا بعناصر لا تضمن أي تمييز (3). أضف إلى ذلك أن التطورات القانونية التي جاءت في مدونة الشغل المغربية لا تهم سوى نسبة قليلة من النساء، فمعظمهن يعملن في قطاعات غير محمية أو بدون أجر؛ ففي سنة 2012 تم تسجيل ما يقرب من تسعة نساء من أصل عشرة (87.5 بالمائة في المناطق الريفية)، وأكثر من النصف (54.2 بالمائة بالمناطق الحضرية) يعملن بدون عقد مكتوب، ومن تم لا تشملهن مدونة الشغل.
إذن يظل النشاط النسائي المزاول في المغرب متمركزا في القطاعات ذات التأهيل الضعيف، ويقتصر على عدد محدود من المهن والتي تتسم بالهشاشة. فهناك ما يقارب نصف النساء النشيطات على المستوى الوطني (48.1 في المائة سنة 2013، تمثل النساء القرويات 73.6 في المائة منها)، هن “مساعدات عائليات” (4)، ولا يتوفرن على عقد عمل مكتوب (8.7 بالمائة فقط من النساء في الوسط القروي في المغرب لهن عقد مكتوب ولمدة غير محددة). ومعظمهن لا يتوفرن على أي تغطية طبية (98.8 في المائة) (5)، أضف إلى ذلك الظروف القاسية المهددة لسلامتهن، وضعف الحماية من المخاطر الصحية خلال العمل، ولا ننسى ما تتعرض له من صعوبة النفاذ إلى الأراضي التي ينتج عنها عدم حصولهن على القروض، فهن غالبا ما تكن عبارة عن أيادي عاملة فلاحية، أو كما سبق الإشارة إلى ذلك مساعدات عائليات (6).
وفي سياق آخر فإذا كان سمة العمل غير المؤدى عنه يمس شريحة النساء القرويات، فإن التشغيل الناقص يمس النساء الحضريات (8.8 في المائة). وأغلبهن لا يتوفرن على عقد عمل مكتوب (حوالي النصف)، كما لا يتوفرن كذلك على أي تغطية صحية (53.3 في المائة). وتكن أكثر حضورا في المهن المعتبرة تقليديا نسائية والتي تعرف تشغيلا هشا، وظروف عمل صعبة (الفلاحة، العمل المنزلي، النسيج، والاقتصاد غير المنظم بصفة عامة). وتكن مطالبات أكثر من الرجال ببذل جهد أكثر أهمية لكي تتمكن من الارتقاء المهني والتوفيق بين النشاطين المهني والمنزلي. فالمرأة ما زالت تتصدر قائمة الفئات الأكثر هشاشة والمعرضة للإقصاء والتهميش. ثم إن التدابير الكفيلة بفرض الاحترام الفعلي للحد الأدنى للأجور وظروف الشغل لا تطبق دائما بالنسبة للأجيرات اللائي غالبا ما يجهلنها. ولا يفرض على المشغلين (7) الإدلاء بما يثبت مبدأ “الأجر المتساوي للعمل المتساوي”. إضافة إلى عدم القيام بافتحاصات مالية، وبعمليات مراقبة، الغاية منها مراقبة التمييز في الأجور بين الجنسين. كما أن إسهام المرأة الاقتصادي في المغرب يتركز بالأساس في القطاع الزراعي والقطاع غير المنظم، وهو ما يعني عدم استقرارية دخلها، وعدم حصولها على تأمينات العمل، واستمرار تبعيتها للرجل.
كل هذه الأمور تدل على أن كل الخطط والبرامج المتخذة غير فعلية وأن الجهود المبذولة محدودة فيما يخص العمل على محاربة التمييز ضد المرأة في مجال الشغل. والأمر يعود بالأساس إلى نوعية الاستراتيجيات التي تم وضعها، ومدى استجابتها لمتطلبات الواقع. بالإضافة إلى أن مخططات التنمية لا تفعل بالشكل المطلوب، ويعاني كل من التخطيط والتطبيق من قصور وعدم الانسجام، ونقص في تتبع وتقييم المبادرات المبذولة. لذلك ما زال الطريق طويلا أمام المغرب من أجل إيجاد وسائل لتدعيم عمل المرأة الاقتصادي؛ وأهمها حمايتها من الاستغلال بكل أصنافه، وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل بالنسبة للدخل إذا تساوت قيمة العمل، واتخاذ التدابير والعقوبات الصارمة ضد كل من يهدر حقوق العاملة سواء كان الاعتداء من لدن المشغل أو غيره مع تشجيعهن على تقديم تظلماتهن، وحمايتهن فعليا مما قد يطالهن جراء ذلك. وهذا الأمر يستدعي بالضرورة تحيين النص القانوني بما يخدم مصلحة العاملة في جميع القطاعات وخاصة المهن التي تعتبر هشة، وتفعيل دور المراقبة والتفتيش.
الهوامش:
(1) تنص هذه الاتفاقية في المادة الثانية منها على أنه: “تتعهد كل دولة عضو تسري عليها هذه الاتفاقية بصياغة وتطبيق سياسة وطنية ترمي إلى تشجيع تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة في الاستخدام والمهنة باتباع نهج تناسب الظروف والممارسات الوطنية، بغية القضاء على أي تمييز في هذا المجال”.
(2) إن الافتحاص الأولي للمدونة توحي للقارئ على أن البنية القانونية قد استكملت من وجهة المرجعية الدولية لحقوق النساء، فبمجرد وجود بنود خاصة بالمرأة ضمن المدونة يعد مكسبا ينبغي تثمينه، لكن التعمق والتمعن في مختلف تلك المكاسب توحي بوجود فراغ قانوني على مستوى العديد من بنودها.
(3) محمد بنحساين، حماية حقوق المرأة الأجيرة في التشريع المغربي، مجلة القانون المدني، العدد الثالث، 2016، ص 85-86.
(4) إحصاءات مأخوذة من: المملكة المغربية وزارة الاقتصاد والمالية، مشروع قانون المالية لسنة 2016، تقرير حول الميزانية القائمة على النتائج من منظور النوع، مرجع سابق، ص 122.
(5) واستنادا إلى مؤشرات الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، برسم سنة 2016، فإن 405.779 مؤمنـة تـؤدي اشـتراكات الصنـدوق، مقابـل 795.608 مؤمـن. انظر: المملكة المغربية وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، نظــم الحمايــة الاجتماعيــة، الولــوج للخدمــات العموميـة والبنيـات المسـتدامة مـن أجل المسـاواة بيــن الجنســين وتمكيــن النســاء والفتيــات تقرير المملكة المغربية – مارس 2019، ص 45، مرجع سابق.
(6) وهذا يعني عدم وجود تحسن وتغيير على مستوى شغل المرأة، حيث أن نفس النتيجة كانت سنة 1987، إذ بلغت نسبة نشاط المرأة القروية أكثر من 91 في المائة. 84 في المائة منهن مساعدات عائليات. انظر :
Royaume du Maroc premier ministre ministère des affaires économiques et sociales, études démographiques femme et développement au Maroc ,108-109 .
(7) باستثناء مقاولات محددة على رأس الأصابع قامت بإبرام عقود تنص على عدم التمييز بين الجنسين.