العاملات في الحقول.. نساء تحت غمامة البؤس

من خلال جولة في الأسواق المغربية يلاحظ ما تزخر به بلادنا من وفرة المنتوجات الفلاحية؛ خضرا وفواكه، زرعت وجنيت بعناية وحرفية، ورغم حالة الطوارئ الصحية التي أقرتها سلطات بلادنا من أجل كبح تفشي الوباء، ما زالت عمليات الإنتاج مستمرة ملبية حاجيات السوق الداخلية والخارجية، هذه الدينامية أبطالها نساء عاملات في الحقول، يعشن على هامش المجتمع، يتخبطن في هموم المعاش بمعاناة مريرة واعتداء صارخ على كيانهن، لا يعرفن شيئا عن منظمات حقوق الإنسان ولا قوانين الشغل، لا خبر لهن عن مخططات وبرامج النهوض بالمرأة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، تتعدد معاناتهن الاجتماعية والصحية والنفسية والحقوقية.
فئات عمرية مختلفة تتجند كل يوم لهذا العمل المضني في الحقول؛ عجائز تروي ملامحهن قصص المعاناة والآلام، وقاصرات يافعات في زهرة شبابهن، وربات بيوت، جميعهن تجرعن، وما يزلن، قسوة الطبيعة وقسوة الحياة منذ الصبا، طفولة محرومة، وانقطاع عن الدراسة لمن فازت ببضع سنوات بمقعد في حُجر التعليم الابتدائي، زواج مبكر وإنجاب متكرر في ظروف تنعدم فيها المعايير الصحية، الهشاشة، الفقر، الأمية… وغيرها من الآفات الاجتماعية، تنضاف إليها عادات وعقليات تعيق أي محاولة للانعتاق من براثين التخلف والضعف والاستغلال إلى بر الأمان؛ حيث الاستقرار المادي والنفسي والصحي. أعطاب تدفع بالمرأة الأم والابنة والأخت والزوجة إلى مستنقع الاستعباد، لتعيل أسرة يتيمة الأب، أو تعين أبا فلاحا لم ينصفه محصوله أو عمله اليومي، أو تساهم في مصاريف تطبيب أبوين عجوزين سلبت الأرض كل قواهما، وأخرى تسعى من أجل أولادها أملا في غد أفضل.
“مقوسات الظهر” ويتصببن عرقا من لهيب أشعة الشمس الحارقة، هذا مظهر أغلب النساء العاملات في الحقول، مرغمات لا راغبات للقيام بأشغال عسيرة من تنقية الأعشاب الضارة، وجني حبات الفاكهة، وتقليب التربة، وحمل الصناديق.. يدفعن الثمن من صحتهن وطاقتهن.
التعرض لأشعة الشمس لمدة طويلة ولسنوات عدة يتلف ألياف الكولاجين، فيترهل الجلد ويفقد مرونته وتظهر التجاعيد. والانحناء المستمر قد يساهم في تحديب الظهر، وقد يسبب مشاكل في العمود الفقري، حمل الأثقال وأدوات العمل جهد بدني يحمّل المرأة أكثر مما تطيق، لا سيما أنها تظفر بدقائق معدودة لسد جوعها تم تستأنف عملها، فلا وجود لوقت الراحة مع حرص “الباطرون” على الوقت وعدم ضياعه.
ومع غياب إجراءات الحماية الصحية والسلامة البدنية، إلا بعض الأدوات الصعبة في الاستعمال لرداءة جودتها، قد تتعرض العاملة لجروح أو خدوش من الأعشاب الضارة، وحساسية اليدين بسبب اللمس المباشر لها، والأدهى والأمر أن “عددا من المبيدات المستعملة في الإنتاج الفلاحي له تأثير على الأجنة، وعددا آخر تسبب في ظهور الأورام على حيوانات التجارب، وعددا آخر يؤثر سلبا على الوظائف الفيسيولوجية والأعضاء الداخلية في جسم الإنسان، ومبيدات تؤثر على الخصوبة و تسبب العقم” (1)، وتهاون وتراخي في احترام الإجراءات الوقائية، وفي زمن الوباء قد تكون الضريبة أكبر، خصوصا بعد إقرار عدة تدابير أبرزها مسافة الأمان وتقليص التجمعات، هذه الأخيرة تنتقض في أول مرحلة من بداية العمل، في حافلات النقل المهترئة التي لطالما كدست العمال فيها كالقطيع. كل هذا يقابله غياب المستشفيات – محليا – وانعدام الإسعافات الأولية وخدمات الصحة، وكذلك التحاليل المخبرية الكاشفة عن « كوفيد19»، اللهم بعض المستوصفات الفارغة حتى من المستلزمات الضرورية.
تشتغل كل عاملة في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى للحقوق الواردة في مدونة الشغل، والرامية إلى الحرص على آدمية الأجير وصون كرامته وحقوقه الشخصية.
فمن يحمي امرأة تخرج في جنح الليل، والطريق محفوفة بالمخاطر لتتوجه «للموقف» أول الحقل، حيث تسجل برقم وصورة من البطاقة الوطنية، ليس لها أي عقد يثبت عملها لساعات طويلة تحت رحمة المشغل و تعسفه، أحيانا بالصراخ والإهانة والتهديد والسب، فمحيط العمل يفتقر للآداب العامة خلافا للمنصوص عليه في المادة 24 من مدونة الشغل، وقد يصل الأمر حد الاعتداء الجسدي لمجرد خطأ مكلف، أو تحرش جنسي، ومحاولات التغرير والاستدراج باستغلال فاقتهن أو سذاجة بعضهن، والواقع يحكي عن ضحايا كثر والمستور والمخفي أعظم. ولا وجود لأي وثيقة تضمن حقوق العاملة؛ فلا ضمان اجتماعي ولا تأمين عن الحوادث، أو على الأقل مساواة الأجر للعمل، ولا حماية من الطرد الذي يصبح مصير كل معترضة أو مستنكرة، والضامن الواحد للقمة العيش هو “خدمي وسكتي”.
نساء في مظهر رث يجسدن الآلام المعنوية والمعاناة الوجودية، رغم أهميتهن القصوى في عملية الإنتاج الفلاحي والزراعي التي لا غنى لأي مجتمع عنها. منسيات، محتقرات من طرف المجتمع، لا تتذكرهن سوى حملة انتخابية عابرة أو بعض عقود الاستبداد الآخر في الخارج.
آثار نفسية جسيمة تولد القهر والاستكانة والرضوخ في أشد درجاته، فتنهار قيمة الذات أمام تسلط وسيطرة القوي، فاقدة كل مقومات الرد أو المقاومة، فلا جرم أن تولد هذه الظروف لدى هؤلاء البائسات كمّا من مشاعر الحقد والكراهية، تملأ عالمهن وتسبب تراكما للعدوانية المرتدة في الغالب إلى الذات نفسها، فتعمد إلى إهمالها والقسوة عليها، فتضطرب النفسية خصوصا مع الشعور الدائم بالقلق على الصحة والرزق وفقدان السيطرة على المصير، إنها حالة نفسية في أقصى درجات التوتر الانفعالي والغليان الداخلي؛ «إن طول معاناة الإنسان المقهور، ومدى القهر والتسلط الذي فرض عليه، ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم آلام الماضي وتأزم في معاناة الحاضر، وانسداد آفاق المستقبل» (2).
(1) مقتطف من حوار ناريمان جبر العطاونة، باحثة في شؤون البيئة مع مجلة العلم.
(2) من كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور، ص 49.