الاستغفار في شهر المغفرة

ونحن نعيش هاته الأجواء الإيمانية والنفحات الربانية في أفضل شهور السنة، شهر التدريب التربوي وشهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، لا بد لنا من وقفة مع أنفسنا نقيمها ونحاسبها ونزنها بميزان الشرع الحكيم، ونلزمها بالوقوف بباب الملك الديان وطرق بابه دون كلل أو ملل، ونسأله أن يغفر لنا ويتجاوز عنا ويستر عيوبنا ويقربنا إليه زلفى.
فما هو الاستغفار؟
وما هو فضله؟
وما هي شروطه وأوقاته؟
الاستغفار هو طلب المغفرة من الله تعالى، أي طلب الوقاية من شر الذنوب مع سترها. وهو ذكر يطهر القلب من الأدران والمعاصي، ويكون متلازما ومقترنا بالتوبة.
قال تعالى: واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (المزمل: 20)، أي أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: استغفار بلا إقلاع توبة الكاذبين، فيكون حينئذ استغفارنا ذنب يحتاج إلى استغفار لأنه ادعاء وقول باللسان فقط دون ترك للذنوب والمعاصي.
وهو مشروع في كل وقت وحين، ويجب عند فعل الذنب، ويستحب بعد الأعمال الصالحة كالصلاة والصيام والحج لجبر النقص والخلل، ويستحب أيضا في الأسحار؛ أي في الثلث الأخير من الليل وقت النزول الإلهي، فقد مدح الله تعالى عباده المؤمنين قائلا: إنهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون (الذاريات: 17)، وعن أبي هريرة أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: “يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له” (صحيح البخاري).
وحكمه كحكم الدعاء؛ إن شاء الله قبله وغفر لصاحبه، خصوصا إن خرج من قلب منكسر ومقر بالذنوب صادق في الطلب أو وافق ساعة إجابة.
فقد ورد في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيِّدِ الاستغفارِ أنْ يقولَ العبدُ: اللَّهُمَّ أنتَ ربِّي لا إلهَ إلَّا أنتَ خلقتَني وأنا عبدُكَ، وأنَا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ بنعمتِكَ علَيَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفِرْ لي إنَّهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ” (صحيح البخاري). صيغة مسنونة قمة في حمد الله تعالى والثناء عليه، والإقرار والاعتراف بالعبودية لله تعالى، وبالخطأ والتقصير وطلب الإقالة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “إن كُنَّا لنَعُدَّ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في المجلسِ يقولُ: ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إنك أنتَ التوابُ الغفورُ مائةَ مرة” (حديث صحيح في مسند الإمام أحمد).
فالاستغفار مفتاح الأبواب المغلقة وحل للمشاكل المستعصية بإذن الله تعالى، فقد ذكر الإمام القرطبي عن ابن صبيح قال: “شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئاً! إن الله عز وجل يقول في سورة نوح: فقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (نوح، 10-12).
قال الرجل للحسن البصري: أما يستحي أحدنا من ربه؟ نفعل الذنب، ثم نستغفر، ثم نفعله مرة أخرى، ثم نستغفر وهكذا، فقال له الحسن: ودَّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذا؛ لا تتركوا الاستغفار أبدا. فالاستغفار إذا طاعة لله، وسبب لمغفرة الذنوب، ولنزول الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، ودخول الجنات، ودفع البلاء، ونزول الرحمة، وتأسٍّ بالحبيب المصطفى. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة” (صحيح البخاري).
قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار.
وقال ابن تيمية: الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام.
هذا والدعاء والرجاء في الله بداية الطريق، والصحبة الصالحة مفتاح لكل خير، فصحبة المستغفرين الذاكرين التوابين تورث لهج اللسان بالاستغفار وخشية الله في السر والعلن وتصحيح الوجهة والقصد في طلب وجه الله تعالى وتوحيده بالعبودية، نسأله وحده ونستعين به ونتوكل عليه، فالتوحيد يعتبر السبب الأعظم للمغفرة، يقول تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (النساء، 48).
وأختم كلامي بقول أمنا عائشة رضي الله عنها: “طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا”.
فالله نسأل أن يغفر لنا ذنوبنا، ويكفر عنا سيئاتنا، ويعتق رقابنا من النار، ويتقبل منا الصيام والقيام والدعاء وصالح الأعمال. والحمد لله رب العالمين.