يوميات في زمن كورونا (2).. نوح المساجد وبوح الجدران

استيقظ الحاج احمد من نومه في الهزيع الأخير من الليل، نهض بصعوبة بالغة فقد اشتد عليه المرض هذه الأيام، وكان تأثير الأدوية قويا اضطربت معه مواعيد نومه ويقظته… الحمد لله، اللهم أيقظني لأحب الأوقات إليك يا ربنا، تلك كلمته المعهودة، تعودت عليها جدران غرفته، توضأ للصلاة، نظر إلى ساعة الهاتف فوجد الوقت مبكرا على صلاة الصبح، قام مصليا ما شاء الله من الركعات، وجلس للقنوت والاستغفار وقت السحر، يململ أصابعه المرتعشة، مغمضا عينيه متأملا في سكون الكون من كل جلبة. نظر من النافذة وقد همّ بالخروج إلى مسجد الحي فتعجب من فراغ الزقاق والأزقة المجاورة، لا أثر لبشر، لم ينتبه؛ رمى برجليه المتثاقلتين إلى خارج البيت، وسار بخطى متوازنة وهو يسبح ويهلل ويكبر بمسبحته العتيقة الطويلة، اقترب من المسجد فوجد الباب شبه مغلق، أطل بقامته من الباب فإذا بالمؤذن وحيدا ينتظر وقت النداء لصلاة الصبح يستقبل القبلة.. ارتطمت ركبته الهرمة بالباب فانتبه المؤذن وهرول نحو الشيخ وأخذه من يده وحدثه بلطف: لا صلاة في المسجد بعد اليوم حتى يرفع البلاء فنحن في الحجر الصحي؛ “صل في بيتك يا حاج”، صعق الحاج، أخرج قدمه المتبقية في المسجد، جرها بخيبة كبيرة وكلمة “صل في بيتك” توقع صداما في عقله، وهو يهمهم بكلمات متحشرجة، جهش ببكاء مخفي: يا الله، هل أقفلت المساجد في وجهنا؟؟ نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك. وترتطم بذاكرته كلمة وباء، إنها الصدمة فقد كان حبيس مرضه ولم يعرف الخبر، “إنه الوباء يا حاج اجلس في بيتك كي لا ينتشر المرض”، وصل إلى غرفته وهو يجرجر رجليه خيبة وهرما، جلس على حافة السرير عله يسترجع بعض أنفاسه التي انحبست وهي ترجع القهقرى من أعتاب المسجد.. يا الله وباء يمنع عمارة بيوت الله، ما شهدتها يا رب .
وقف للصلاة ورفع يديه داعيا: “يا رب هذا بلاؤك قد اشتد، فأرنا رحمتك، ولا ترد دعاءنا، يا لطيف الطف بنا في ما جرت به مقاديرك”.
انحنت قامته الهزيلة الهرمة؛ قائمة راكعة ساجدة لله، تجدد اللقاء برب العزة، تبدّل لديه طعم الصلاة هذه الليلة؛ بعد فترة نقاهة من ابتلاء المرض وها هو يسمع ببلاء بدأ في الانتشار، الروح طرية غضة، والنفس كسيرة هزم غرورها امتحان الأزمة، والقلب يفيض ذلا وانكسارا أمام خالقه، فالخطب جلل ولا حول ولا قوة إلا بالله، جلس القرفصاء وهو يستغفر بأنامل مرتعدة مجعدة؛ علّم عليها الزمان بشراسة، رفع بصره قائلا: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
في انتظار صلاة الصبح عصرت مدامعه المتجعدة عبرات فقيرة شح ماؤها أمام الخبر الذي تلقاه في المسجد، تنبهت أذناه لجعجعة أواني المطبخ؛ إنها زوجة ابنه البكر، قامت لتسخين ماء الوضوء، وسمع خطوات أحد أحفاده أيضا.
غصة في صدره أخرجها بمناجاة خاشعة ملأى بالأنين، وأعظم بها من عبادة في زمن البلاء والوباء؛ عبادة الأنين، ترغم أنف غرور النفس وتعنّ الوجوه للحي القيوم خاشعة متبتلة وتصدح أصوات الدعاء في الأرجاء. تذكر الحاج أحمد مقولة والده رحمه الله “اللي دار الذنب يستاهل لعقوبة”، وحرك رأسه باكيا “إي والله يا رب، إي والله، ما عبدناك كما يجب، وما أقمنا الصلاة حقا وعدلا”.
موجع هو حال الإنسان مع الصلاة، في زمن شحت فيه إقامتها، يحسبها حركات فردية وهي أعظم وأشمل؛ إنك بين يدي مالك الملك، تقوم بفعل الصلاة ظاهرا وباطنا، ويمتد فعلها إلى ما بعد الانتهاء منها؛ وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر؛ أقمها بحدودها وشروطها، وانثر في الكون عبق أخلاق الصلاة مقالا وفعالا؛ ناهية عن المنكر آمرة بالمعروف، احبس نفسك عن الظلم، وتعفف عن أعراض الغير، أمط أذاك عمن حولك، وأد الحقوق، وصل الرحم، وأحسن إلى الأقارب، وانفع الجار … “أقم الصلاة” أيها المصلي؛ لوحة اكتبها عنوانا في عتبة بيتك “كن محسنا”.
الله أكبر؛ تسلل الأذان بعذوبة إلى مسامع الحاج أحمد ليريح نفسه التعبة ويشنفها لعله يزول ما علاها من إرهاق.. سمع طرقا يستأذن بالدخول، الكنة وحفيدها؛ “عمي الحاج صل بنا جماعة إلى جات على خاطرك واسمعنا ترتيلك للقرآن”، “إي والله جدي الغالي وادع لي أن لا أفوت صلاة الصبح، فأنا مهمل لها”، التفت الجد نحوهما مبتسما، أصلح من وقفته وأمّ بهما.
بعد انقضاء الصلاة بادر الحفيد جده مداعبا: “جدي إياك أن تخرج صباحا إلى حين إلغاء الحجر الصحي، فالأمر خطير وكورونا فيروس قاتل”، ابتسم الحاج احمد وربت على كتف حفيده وهو يرد عليه: “كورونا لم يأت ليقبض أرواحا لم تحن منيتها، ولكن ليحيي أرواحا ميتة، وقلوبا غافلة، ويعظ نفوسا عاصية”، “ولكن يا جدي…” يعقب الحفيد فيقاطعه الجد: “لا تخف يا بني سألزم البيت، عملا بالأسباب، ثم إنه لا حاجة لي بالخروج وقد أقفلت بيوت الله”.
فتح الحاج احمد مصحفه، ثبت نظارتيه الطبية فوق أرنبة أنفه وبدأ يتلو ورده القرآني اليومي: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (سورة النور).