“كورونا” اختبار جديد للآباء

منذ اجتياح ما سمي بفيروس «كورونا» لشتى دول العالم، عملت هذه الأخيرة على فرض عدة إجراءات حمائية واحترازية من أجل الوقاية من تفشي هذا المرض، ومن جملة ما عملت به؛ فرض الحجر الصحي على المواطنين وإجبارهم على لزوم البيوت حرصا على سلامتهم.
تدبير استحسنه العموم، ليجد الآباء أنفسهم رفقة أولادهم في البيت طيلة اليوم، في أوقات عهدوا فيها أطفالهم في حضن المدرسة، تنهكهم الدراسة وتشغلهم الواجبات، وتخلصهم من إزعاجهم، وتكفيهم هم مراقبتهم وتتبعهم.
مأزق كبير، يدفعنا لمراجعة حساباتنا وطرح الأسئلة، أحقا وجدت المدرسة لتكفينا عناء وتعب التربية؟ أين يتجلى دور الآباء في عملية التربية؟
المدرسة مؤسسة تهتم بالناشئة، تضطلع بمهمتي التربية والتعليم بما يساهم في تطوير مدارك ومعارف الطفل ورقي المجتمع وتطوره، وهي بمثابة البيت الثاني لكل تلميذ، فبين جدرانيها يقضي أغلب وقته. وبالرغم من هذا كله، تبقى عنصرا مكملا في معادلة التربية، لا تغني عن دور الآباء المحوري، فيتحتم عليهم مصاحبة أبنائهم منذ نعومة أظافرهم، لما في ذلك من آثار حميدة على نفسياتهم وسلوكهم وتربيتهم. ولنا في سيدنا إبراهيم أسوة حسنة في حرصه على مصاحبة ومصادقة ابنه إسماعيل عليهما السلام، قال تعالى: «فلما بلغ معه السعي»، آية تدل على علاقة نشأت بين الأب وابنه، فيها إعداد وتهييء وتعليم لكل الأساسيات والمهارات لبلوغ السعي، تعلمنا أهمية المتابعة الحثيثة لأطفالنا والمراقبة اليومية لسلوكاتهم، والاعتناء بالناشئ؛ جسما وعقلا وقلبا، مستعينين بما ينفعنا من العلوم والخبرة البشرية.
مهمتنا كآباء تلزمنا برعاية فلذات أكبادنا، وصون فطرتهم بالتقويم والتوجيه، والنهي عن السيئ والقبيح، والترغيب في كل خير للدين والدنيا؛ «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته…»، وعدم تركهم عرضة لما يمكن أن يلاقونه في حياتهم من أمثلة سلبية؛ مثل موظفين حاقدين على وضعيتهم السيئة وأجورهم البخسة، ومجتمع يعج بالكراهية والظلم وفتن اختلفت أنواعها، فلا أهم من أب وأم يقدمان الحب والحنان والشفقة والأمان والدعاء، وهذا من السنن المؤكدة في هدي الحبيب المصطفى. قال البَراء بن عازب: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن بن عليٍّ عَلَى عاتقه يقول: “اللهم إني أحبُّه فأحبَّهُ”. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُقبِّلون الصِّبيان فما نُقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»” (رواه البخاري: [5998]).
أطفالنا ذخر المستقبل، والعمل الصالح الذي لا ينقطع بانقطاع أعمارنا، لا نحسبهم مصدر إزعاج في البيت نحاول التخلص منهم متى سنحت الفرصة، ولا عبئا يثقل كاهلنا، بل أمانة ومهمة عظيمة اصطفاكِ الله لها أيتها الأم واختاركَ لها أيها الأب، نحرص عليها أشد الحرص، متوكلين على الله عز وجل مستعينين به. نجعلهم أولى أولوياتنا اليومية، لا تثنينا عنهم أعباء الحياة ولا هموم المعاش مهما كانت ثقيلة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد هذه الأمة، حامل الرسالة والأمانة، كان يلاعب الحسن والحسين، فقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما «طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة، فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو. فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا حسن وحسين على وَرِكيه. فقال: “هذان ابنايَ وابنا بِنتي، اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما فأحبَّهما وأحِبّ من يحبهما». بأبي وأمي أنت سيدي يا رسول الله.
ولا مناص من بناء تربوي سليم وتنشئة أسرة مسلمة تقوي صرح الأمة، عمادها التعاون المتبادل بين الأم والأب على الأتعاب، حتى لا نلزم ربة البيت بأكثر مما تطيق، فيضيع كل جهدها ونشاطها في التنظيف والطبخ، وتقبل على أبنائها منهكة القوى، مضطربة المزاج، لا حول لها ولا قوة، فكما أن المسؤولية مشتركة فإن الجهد أيضا يجب أن يكون مشتركا، تراعى فيه ظروف كل من الأبوين المهنية والصحية… ثم الحرص التام على تحقيق الصفاء والمودة والرحمة، ماديا ومعنويا، والابتعاد عن المكدرات والمنغصات .
وما زالت «كورونا» محنة في طياتها منح وعبر ودروس.