رب اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك.. قصة قصيرة

سكون عجيب يلف المكان، وبرد قارس يجثم على كل ركن، الصمت هنا يبعث على الإحساس بالرهبة والوجل.
وفجأة سُمع صوت أشبه بالبكاء، لكن صداه قوي.. وانبعث أيضا أنين من هناك، ثم تعالت الأصوات بنحيب صامت موجع ينبعث بحنين وشجن.
أصبت بالهلع بادئ الأمر، ثم هدأت من روعي وطمأنت نفسي، واقتربت بسكون نحوها، دنوت منها وحدقت فيها، مررت بيدي فوقها، لامستها لأجدها ندية كوردة أصابها مطر خفيف، خاطبتها كما أخاطب الناس، ربتّ عليها كما أربت على كتف طفل صغير، ثم تجرأت ونطقت والعبارات تخنقني:
– ما بالك يا سارية؟
أجابتني: حزينة.
فاستطردت بدهشة: أتحسين، بل وتتكلمين!!
فقالت: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
– لم تخبريني عن سبب حزنك.
– افتقدت أحبابا كنت سندهم، وشيوخا كنت ظهرهم، وقراءً يستديرون نحوي حتى يتم لهم الخشوع وسلامة الحفظ.. افتقدت حزبا راتبا يتلى في الغدو والآصال.. أبكي وجوها لها وحشة في قلبي، فقد كنت أراها خمس مرات في اليوم.. وأجهشت بالبكاء.
وتبعتها باقي السواري في الأنين والنحيب حتى حسبت أن قلبي سينفطر وينخلع من مكانه.
هالني المنظر، فلم أكن أدري أن الله أودع الإحساس في كل مخلوقاته من إنس وجن ونبات وجماد.. لكن حجبتنا طينيتنا عن الرؤية والشفافية، فغلظ القلب وأدليت أسدال الغشاوة.
وأنا منغمسة في دهشتي وانفعالي صدر صوت من أقصى المسجد، منبعث من سارية هناك:
– لن تشعر بما نشعر، ولن تقدّر ما نحن فيه، أنتم بعيدون مبعدون، ونحن حاضرون دائمون.
فصحت وقد انفكت عقدة لساني:
– بلى، لقد حزنا وأسفنا، وراعنا صوت المؤذن وهو يقول: “صلوا في رحالكم”، لقد كان المصاب جللا، لكنها مشيئة الله، شاء الله وما قدر فعل..
قاطعتني بقوة:
– لا، لن يشعر بمصابنا إلا أحد السبعة الذين سيظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله؛ رجل قلبه معلق بالمساجد. لن يشعر بنا إلا من كابد النوم وهجره، وسار في العتمة تضرب خطاه ليل الشتاء البارد وحر الظهيرة في الهواجر، من سابق الملائكة في خطاها ومحا وصمة النفاق من جبينه ليكون مصطفى ومقربا، تزاحم كتفه كتف إخوته من المومنين، سادا للفرج، محاذيا بين المناكب، سابغا وضوءه، ومنتظرا الصلاة بعد الصلاة.
طأطأت رأسي خجلا، فأنا لست كذلك، لا تطأ قدماي المسجد إلا من الجمعة إلى الجمعة، وأحرص على صلاة التراويح في رمضان، ثم أولي غير مبال، همتي فاترة، وعزيمتي متقاعسة، لم أجد ما أنافح به عن نفسي، فتمتمت:
– كل المساجد عطلت، حتى بيت الله الحرام والمسجد النبوي.. إنه الوباء قد عم الأرجاء، وكان لا بد من اتخاذ تدابير وقائية…
فقاطعتني:
هناك.. كل ذرة.. كل سارية وأسطوانة، كل لبنة، قد عمها الشجن، حتى الحمائم وهي تطوف، حتى القطط وهي تحوم..
ثم أردفت: لعل الأرض تتطهر، فيستبدلكم الله بقوم خير منكم..
لم أطق كلماتها التي انطلقت مدوية صادحة، أصابتني في مقتل، فصرخت:
– لا.. لا.. بل هي فرصة نجاة للتوبة والإنابة والعودة.. لقد اشتقنا لرائحة المساجد، للطمأنينة التي تسري في أركانه، للسكينة التي تعتلي أرجاءه..
لقد اشتقنا للجُمع والجماعات، للصلاة حاضرة، فلا تقسي علي يا سارية، يكفينا ما نكابده من حنين.
فعسى أن يأتي رمضان فتزاحم أكتافنا أكتاف الملائكة، وتسرج أنوار المساجد، ويتعالى التهليل في المآذن، ويعبق المكان برائحة المسك والعود وماء الورد بدل الكلور والكحول.
سنعود ونحن ممتنين للرحمان، شاكرين، حامدين، خاشعين، مقدرين للنعم التي كنا منغمسين فيها.
سيرحل ليل الوباء ويطل علينا فجر جديد؛ نميز فيه بين الخيط الأبيض والأسود.
ستحنو عليك يد المومنين، وستسكنين وتهدئين كما سكن الجذع عندما حنت عليه يد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهدأت من روعه.
طأطأت رأسي ودعوت: “اللهم إني أسألك من فضلك”، ووليت نحو الباب خارجا.
تعالى في الآفاق صوت “الله أكبر، الله أكبر” ، لأستيقظ من نوم عميق، رأيت فيه حلما لا ككل الأحلام.. بل كان عظة وصحوة من غفلة.. فهلا اعتبرت.