يوميات في زمن كورونا (1).. مخاض

أعلن عن الحجر الصحي في البلدة ففزع الناس وعم الهلع والجزع والخوف؛ ليس من الوباء ولكن من الجوع، الوصية الجارية على الألسن لكل من التقيته أو تواصلت معه عبر الهاتف من معارف هي: “لا تنس المؤونة”، ولأن عاداتنا في الأكل صحية للغاية فقد اكتفيت بتفقد ما في مطبخي من دقيق القمح الكامل والشعير، غسلت كمية منها ونقيتها ونشَّفتها من الماء ثم خرجت إلى المطحنة لطحنها، ويا ليتني ما فعلت ! لم ألمس من الحجر الصحي سوى حجر عقلي نفسي؛ أنانية وتسابق وعيون تسبح في المجهول لا تكاد تستقر على شيء؛ كل المطاحن مملوءة عن آخرها بالأكياس والكل ينتظر، أقفلت في وجهي كل المطاحن إلا واحدة خاطبني صاحبها بقوله: لا يمكن الآن سيدتي، عودي بعد عشرة أيام.
عزمت على الذهاب إلى متجر من المتاجر الكبرى علّي أحظى بكيس واحد من الطحين، وجدته أيضا مزدحما، وقفت أنتظر قرابة ساعة إلا ربع ثم عدت أدراجي خاوية الوفاض.
وأنا راجعة إلى البيت ألقيت بناظري في الأزقة والشوارع، فلم أرَ إلا منظرا متكررا؛ تحميل مخزون كبير من المؤونة في السيارات، قلت في نفسي: الله أكبر وأعز وأقدر مما أخاف وأحذر.
أدركت ساعتها أن أبشع ما يحرك البشر هو الخوف من الجوع وهوس الاستهلاك، يستوي في ذلك معظم الناس مهما بلغ مستواهم، وها هي الجائحة تخرج أبشع ما في الناس من جشع وخوف.
وراودتني مجموعة من الأسئلة: ماذا سيحصل إن لم نتنعم بأصناف المأكولات وألوان الأطعمة لمدة؟ ماذا لو اكتفينا بالضروريات والحاجيات التي تسد الجوع ولا تدغدغ الشهوات؟ كيف سنحس بجوع الفقير وألمه ونحن نقتني ما يعمر محلا تجاريا برمته؟
كيف نستقبل قدر الله بالرضى والسكينة والخوف من لقائه ولا أمن لنا ولا سكينة؟ والخوف من الجوع وهمّ المأكل والمشرب يسيطر علينا ويلازمنا صباح مساء؟
إن مما يجب أن نستخلصه من هذه الضائقة أن نتخلص من شهواتنا التي كبلتنا حتى أصبحنا عبيدا لها، وأن نستشعر حاجة من لا مؤونة لديهم ولا سبيل لهم إليها.
بادرتني ابنتي وهي تبحث في المطبخ زوالا بالسؤال حول بعض الحاجيات، لكنني أجبتها أننا في حجر صحي وهو وضع خاص يقتضي منا أن نتقلل، فامتعضت، وذكرتها بأن هناك من الناس من يعيشون حياتهم كلها في هذا الوضع. وقفزت إلى ذهني حالة جارة لنا أرملة تكفل يتامى، سرحها رب العمل في هذه الفترة، فذهبت لزيارتها، وجدت ابنها يأكل خبزا وزيتا وشايا، وعندما سألتها عن أحوالها تهلل لسانها بالتحميد والشكر، حبست مدامعي وأنا أحمد الله تعالى أن له عبادا أخفياء أصفياء لا يضرهم تقلب الزمان، فهم على حال الحمد والتكبير والتمجيد ثابتون.
إن للوباء مخاض تختلط فيه صيحات الاستغاثة والألم والخوف من الغد، “يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا”؛ صرخة ألم وجزع من سيدتنا مريم الصفية، يتبعها نداء رب العالمين “هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا” حين أزف وقت الطلق، ليطلق السراح ويأتي الفرج من رب كريم عظيم وهاب رحيم.
بالأمس كان ميلاد عيسى عليه السلام النبي الرسول من أمه مريم الصديقة الملازمة للمحراب، وغدا يأتي ميلاد جديد ينبئ بانحسار الوباء وما رافقه من مظاهر الخوف والهلع، فهلا فهمنا القصد ولازمنا المحراب.