الصبر على الابتلاء (2)

أولا: تعريفات
1. مفهوم الصبر
. لغة: الصبر في اللغة اسم، ومصدره: صَبَرَ، يُقال: يَتَحَلَّى بِالصَبْرِ أي؛ يَتَحَلَّى بِالْجَلَدِ، أَيْ؛ لاَ يُظْهِرُ شَكْوىً مِنْ أَلَمٍ أَوْ بَلْوىً أصابته. والصَّبْرُ: التجلُّد وحُسن الاحتمال.
. اصطلاحا:
ترك الإنسان للشكوى من ألم البلوى التي تصيبه لغير الله لا إلى الله سبحانه وتعالى.
والصبر كما يقول العلماء: تحمل البلوى من غير شكوى.
والصبر درجات:
1- الصبر مع الله – وهو أعظمها – لأنه جنَّد نفسه وِفقًا لأوامره ونواهيه بدون اعتراض أو تذمُّر، وهو صبر الصِّدِّيقين.
2- الصبر لله: مثل صبر إسماعيل الذبيح وإبراهيم عليهما السلام حيث تنفيذ الأوامر والصبر عليها لله.
3- الصبر بالله: وهو صبر الاستعانة بالله ورؤية أن الله هو المُصبِّر، وهو صبر عامة الناس وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.
والصبر مراتب:
1- صابر. 2- مصطبِر (مكتسب الصبر). 3- مُتصبِّر (بالله). 4- صبور (عظيم الصبر أكثر من غيره). 5- صبَّار (كثير الصبر).
وقد قيل: “تجرَّع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدًا، وإن أحياك أحياك عزيزًا”. وقد أمر الله سبحانه وتعالى في القرآن:
* بالصبر الجميل: وهو الذي لا شكوى فيه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف من الآية: 18].
* الصفح الجميل: وهو الذي لا عتاب معه فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر من الآية: 85].
* الهجر الجميل: وهو الذي لا أذى معه وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المُزَّمِّل من الآية: 10].
والشكوى تبقى لله عز وجل مع الصبر في كل الأحوال، فالشكوى له سبحانه لا تنافي الصبر؛ حيث قال يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله [يوسف من الآية:85]، وقال أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء من الآية: 83]. أما الذي ينافي الصبر فهو: شكوى الله للعباد لا الشكوى إلى الله. وهنا قصة لأحد الصالحين حيث رأى رجلًا يشكو إلى آخر الفاقة والفقر فقال:
“يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟!” ثم أنشد:
وإذا عرتك بلية فاصبر لها *** صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
2- الابتلاء
. لغة: مصدر اِبْتَلَى، اِبْتِلاَءُ الإنْسَانِ: اِخْتِبَاره، وابْتلاهُ بعلَّةٍ أي اختبره، اِمتحنه، إذا أحب الله عبدًا ابتلاه.
وجاء في معنى الابتلاء: “في لسان العرب جذر بلي: وابتلاه الله: امتحنه… والبلاء يكون في الخير والشر… والله تعالى يبلي العبد بلاء حسنا وبلاء سيئا. والجمع البلايا…
. اصطلاحا: الاختبار والامتحان، والبلاء يكون في الخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط.
يقول الإمام المجدد رحمه الله في هذا المقام: “فإن لم يكن كل واحد على نفسه أولا” إذن قف مع نفسك أولا، حاسبها، طهرها من الخلود إلى الأرض، عطرها بذكر الله، حبب إليها وجه الله الكريم، واجعل الدنيا مطية للآخرة. فإن الذي شتت الجماعات وأورثها الخور، وجعلها شذر مذر، الغفلة عن النفس، والبعد عن تهذيبها، فبدل أن يغيروا، تغيروا وخنعوا وركنوا. فكن على نفسك، السبيل الأول لتحمل الابتلاء.
وللابتلاء معاني عديدة، وسيكون مدار الحديث في هذا الموضوع عن الابتلاء الذي تتعرض له دعوة الرسل ومن حمل رسالة الله بعدهم من الأعداء والمبطلين، تمحيصا من الله تعالى وتمييزا للخبيث من الطيب والقاعد من المجاهد وابتلاء لما في الصدور قال تعالى: ما كان الله ليذر المومنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب (آل عمران: 179)، وقال عز وجل: وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (آل عمران: 154)، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “لكن حكمته في الفتنة ليظهر في الواقع ما هو كامن في استعداد الفطر ومكنون القدر”.
وقد أجمع العلماء على أن الصبر واجب وهو نصف الإيمان، فالإيمان نصفان: نصفه صبر، ونصفه شكر، وأن أعظم الناس محبة لله أعظمهم صبرًا.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا في هذا الصدد أن الصبر على البلاء من صفات المؤمنين الصادقين ومن صميم شيمهم:
“الصبر على البلاء واجب، وهو من شأن المؤمن دائماً قال صلى الله عليه وسلم: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”. أخرجه مسلم عن صهيب رضي الله عنه.
وجاء في ذلك أوصاف رائعة للصابرين على البلاء للإمام المجدد رحمه الله في المنهاج النبوي:
يقول الإمام المجدد رحمه الله: “الصبرُ على البلاء، وعلى البلاء مبنى الحياة والموت والمسيرة في الدنيا، والثبات في مواطن الخطر، وتحملُ الأذى في سبيل الله عنوان الرشد والعزيمة، وشرط الفلاح والنجاح والنصر.
قال عز وجل يوصي رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ.
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه عز وجل الثبات فيقول: “اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد” رواه الترمذي والنسائي عن شداد بن أوس. وأكثر الدعاة استحقاقا للنصر أرفعهم قدرا. من رفعة قدرهم نموذجيتهم في تحمل البلاء ليتأسى بهم غيرهم فلا يظنوا أن هذه الدنيا دار نُزهة وفرجة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل”. رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجة.
ثانيا: صورُ الصبر على الابتلاء ومراتب الصابرين
إن التاريخ الإسلامي حافل بصور وقصص الصابرين على البلاء في شتى أنواعه، وأرقى صور ذلك ما ورد في قصص الأنبياء والصحابة والصالحين، ومن أعظمها صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم على شتى أنواع الأذى والاضطهاد والتعذيب إلى أن تم النصر والتمكين ومن أمثلة ذلك:
– صَبر آل ياسر رضي الله عنهم: كان الكفار المشركون يعذبون آل ياسر رضوان الله عليهم وهم عمار وأبوه ياسر وأمه سمية، وقد روى الحاكم في المستدرك عن بن إسحاق أنه قال: ((كان عمار بن ياسر وأبوه وأمه أهل بيت إسلام، وكان بنو مخزوم يعذبونهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبرًا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)) صدق رسول الله صلي الله عليه.
– صبر بلال بن رباح رضي الله عنه: اشتد تعذيب الكفار وأذاهم لسيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه، فصبر على الأذى واحتسب الأجر عند الله عز وجل، فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة يطرحه على ظهره ويضع صخرة عظيمة على صدره ويهدده أن يبقيه على هذا الوضع حتى يكفر بالله عز وجل أو يموت وهو كذلك، فيقول بلال: أحد أحد.
– صبر أهل الصفة؛ صفة المسجد النبوي بالمدينة من المهاجرين “الذين حاصروا أنفسهم وانقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وفيهم نزل قول الله تعالى لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، حاصروا أنفسهم للقيام بثلاث وظائف: عبادة الله تعالى وصحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم والتشرب من نور النبوة وانتظار ساعة الخروج في سبيل الله”.
ثالثا: فوائد الصبر وعواقبه الجميلة
أولها: إعانة الله للصابرين ومعيته معهم واصبروا إن الله مع الصابرين.
ثانيها: نوال الخير الكثير والفضل الكبير ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.
ثالثها: الثواب الذي لا يحد، والأجر الذي لا يعد إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
رابعها: رفع الدرجات ومحو السيئات ومغفرة الخطيئات.
خامسها: صلوات الله ورحماته وهدايته وبشر الصابرين الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
سادسها : محبة الله لهم والله يحب الصابرين.
سابعها: العوض في الدنيا والخلف في الآخرة؛ فأما في الدنيا فيجعلهم أئمة الهدى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون، وأما في الآخرة: لهم جنات عدن يدخلونها.. قال تعالى إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون.
معينات مساعدة على الصبر وتحمل الأذى
– تعظيم قدر الله في القلب.
– تعظيم الآخرة.
– زرع الأمل في نفس المؤمنين.
– العلم والقراءة.
– قيام الليل.
– الذكر.
– ترك المعاصي والذنوب.
– الأخوة في الله.
خلاصات أساسية
قد تكفل الله سبحانه وتعالى بمجازاة الصابرين على صبرهم في الدارين؛ فأما الجزاء الدنيوي، فهو:
• إناطة الإمامة بالصابرين؛ جزاءً لإيمانهم بالله، وصبرهم من أجله؛ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة: 23، 24).
• النصر على الأعداء؛ كانتصار بني إسرائيل على فرعون وجنوده؛ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (الأعراف: 137)، وكانتصار طالوت وجنوده.
• الحصول على المدد الإلهي، ومساندة الملائكة؛ كالبُشرى التي ساقها الله عز وجل لعباده في معركة بدر؛ وذلك في قوله سبحانه: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِين (آل عمران: 125).
• الحظوة بمعية الله تعالى، وما في ذلك من انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وذلك في قوله سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: 249)، وكقوله تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين [الأنفال: 46)، وكقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال: 66).
• نيل حب الله تعالى؛ كما في قوله سبحانه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (آل عمران: 146).
وأما الجزاء الأخروي، فيليق بكرم الله سبحانه، وإن مَن يحظى بمعيته وحبه في الحياة الدنيا لا بد أن يكونَ في دار رحمته وجنانه في الدار الآخرة، والآيات التالية كلها تنبئ عن هذا المآل، الذي نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا فيه:
• مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل: 96).
• ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (النحل: 110).
• إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (المؤمنون: 111).
• أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (الفرقان: 75).
• أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا (القصص: 54).
• وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (الإنسان: 12).
• إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (الزمر: 10).