الدراسة عن بعد (قصة قصيرة)

في زمن أضحينا نسمع فيه عن التعليم عن بعد في كل وقت وحين وعلى كل فاه وجبين، يحضرني حدث ثمين.
كان مجرى القصة ومرساها يوم السبت السابع من مارس الموافق للثاني عشر من شهر رجب، في مدينة وجدة العتيقة. كنت حينها ضمن الطاقم الطبي للحملة النسوية الأولى من نوعها التي نظمتها جمعية عملية بسمة بمناسبة عيد المرأة لفائدة المرضى الذين يعانون من شقوق في الشفة العليا أو سقف الحلق.
في هذا اليوم، كانت غرفة الفحص التي كنت أشغلها تقابل شرفة تطل على فناء الطابق الأرضي، وكانت مملوءة ببعض المرضى وذويهم لأن الجو كان شديد البرودة، لذلك كنت أطلب منهم ولوج الغرفة فور شغور أحد كراسي الانتظار التي كنت قد رصصتها صباحا.
حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، أتى الدور على بطلة قصتنا، تقدمت بخطى خجولة مترددة، يصحبها أب تبدو على وجهه لفحات الشمس، وتسكن تجاعيده قساوة العيش، وتروي تقاسيم وجهه تعب السنين والأعوام…
جلست رشيدة ووالدها بجانب المكتب، فقمت وفحصتها ثم جلست لملأ ملفها الطبي. وكنت بين الفينة والأخرى أسألها لأتمم ملأ المعلومات المطلوبة. رن هاتف الوالد فخرج ليتحدث على الشرفة، غير أني أكملت استجوابها وكانت أسئلتي روتينية ويمكن للسائل المتمرس تخمين أجوبتها، وكان من بينها سؤالي عن ما إذا كان زملاؤها في المدرسة يفهمون كلامها، لأن سقف حلقها كان مشقوقا؟ فأجابتني قائلة أنها لا تتمدرس!! وعندما سألتها عن السبب أخبرتني أنهم قرروا توقيفها عن الدراسة، دون أن تحدد من “هم”. سألتها عن من قرر ذلك، فاسترقت نظرة سريعة ناحية والدها الذي كان ما زال في الخارج، ثم قالت: “أنا من قررت التوقف عن الذهاب للمدرسة”. كان لون عينيها أخضر صافيا يميل إلى زرقة البحر في يوم مشمس، وكان من السهل جدا رؤية الحزن فيهما عندما قالت جملتها الأخيرة، وكان من الأسهل رؤية الدموع تكسو عينيها وتزيدهما لمعانا، دموع كتب لها أن تبقى حبيسة جفنيها بعدما عاد الأب إلى الغرفة.
طويت الملف وناولتها إياه، ثم رافقتهما خارج الغرفة، طلبت من رشيدة أن تنتظرني، لأنني كنت أنوي أن أحدث والدها بشأن تمدرسها. لم تستطع بطلتنا الانتظار بعيدا، وكنت أراها تقترب شيئا فشيئا حتى استقرت خلف والدها الذي أخبرني أنه قرر توقيفها عن الدراسة لأن المدرسة تبعد عن بيتهما في دوار تمليلت بأكثر من ساعين. وأن الطريق وعرة وخطرة، خصوصا بالنسبة للبنات…. أثناء حديثنا، أدرت وجهي ناحية اليمين فرأيت نساء يجرين بين غرف الفحص لمختلف الاختصاصات، يبذلن كل ما أوتين من جهد لإرجاع الابتسامة إلى وجوه مئات الأطفال، وفي لمح البصر، كانت دموعي قد بللت وجهي، وخنقت تنهيدة البكاء أنفاسي فتقطعت كلماتي، لم أدر حينها لماذا؟ ربما لأنني تذكرت تضحيات والداي طوال رحلة تحقيق ذاتي وأحلامي، أو ربما لأنني استحضرت الليالي البيض التي كانت تمضيهن أمي على مرأى أعيننا، وهي تراجع دروسها لتحقق أمنية الطفلة الصغيرة التي تسكنها حين قررت استكمال دراستها الجامعية بعد انقطاع دام لسنوات…. استجمعت شتات أفكاري ثم أشرت إلى عضوات طاقم الحملة، وقلت مخاطبة أبا رشيدة وأنا أغالب بحة صوتي: لو أن آباء كل هؤلاء النسوة اخترن الطريق الأسهل مثلما فعلت، ومنعن بناتهن من متابعة دراستهن لما وجدت رشيدة من يساعدها اليوم. كانت رشيدة ما تزال تترقب في خوف ردة فعل والدها، وكنت أراها تضم يديها إلى بعضهما وتعض على شفتيها في توتر.. متهمة بريئة تنتظر حكم القضاء. فجأة بدأ الأب بالبكاء ثم عانق ابنته وبكيا معا وأنا أراقب المشهد في ذهول لأنني لم أكن أتوقعه بتاتا، كان الأب يعتذر ويجدد اعتذاره من ابنته، ووعدني أنه سيعيد تسجيلها في المدرسة وأنه سيشجع باقي الأهالي من معارفه في الدوار على ذلك.
قد يحافظ الأب على وعده وقد لا يفعل، لكننا – أنا ورشيدة – افترقنا على أمل أن أجد اسمها يوما ما على لافتة عيادة أو مكتب هندسة، أو في إدارة عمومية أو مدرسة.
افترقنا على أمل أن تحقق هي وكل من يدرسن “عن بعد” أحلامهن، وأن تفتح لهن الطرق المعبدة قبل الآفاق، وأن يكون البعد لمسيرتهن بداية لا نهاية.
نحن فعلا السباقون، وبلا منازع، في مجال “الدراسة عن بعد”.