التوحد مدرسة

جرت العادة أن يكون شهر أبريل من كل سنة مناسبة للحديث عن التوحد، باعتبار الثاني منه يوما عالميا لهذا المرض، هذا اليوم الذي يعتبر مناسبة للتحسيس باضطراب التوحد وتسليط الضوء عليه، ومناسبة للتعبير عن معاناة هذه الشريحة من المجتمع، وفرصة للمطالبة بالالتفات إليها وتمكينها من حقوقها كاملة وفق ما هو منصوص عليه في الاتفاقية الدولية والقوانين المغربية، لكن هذه السنة يأتي في ظروف استثنائية يشهدها العالم، فلا صوت يعلو اليوم فوق صوت وباء كورونا الذي قض مضاجع الدول دون تمييز بين المتقدمة منها أو المتخلفة، فلم يكن للإعاقة عموما والتوحد خصوصا حظا منها يذكر، لذلك وجدت أن أنسب طريقة لتقريب معاناة الأشخاص التوحديين وأسرهم وخاصة الأمهات أن أروي لكم قصة أم مع هذا الاضطراب نسائل بها أنفسنا أسئلة ملحة.
شذرات من الحكاية ترويها أم
وأنا أستقبل سنة 2002 رزقت ولدا، فرحت وسعدت به كأي أم رزقت ذكرا بعد ابنتها البكر، وأنا أراه يكبر إلى جانب أخته وأرى عائلتي تكبر تكبر أحلامي وتطلعاتي، لكن سرعان ما انقلبت الأمور بشكل غير متوقع حينما علمت أن طفلي مصاب بطيف التوحد، اضطراب لم يكن لي علم بوجوده ولا بكيفية التعاطي معه، زاد من حدة الأمر الطريقة التي أخبرنا بها الأطباء، لأننا تهنا في التشخيص وكأننا نبحث عن بصيص أمل يخبرنا أنها حالة عابرة، لكن القول كان واحدا؛ إنه التوحد، اضطراب يرافق صاحبه طيلة حياته، لا ينفع معه علاج، لكن المصاب به يتحسن بالعمل المستمر، حقيقة لم تربكني فقط ولكن نزلت على كل العائلة كالصاعقة، حقيقة صادمة تبددت معها كل أحلامي وآمالي بما فيها استكمال مساري الدراسي وتربية أطفالي على النحو الذي تخيلته كأي أم، لكن بفضل الله تعالى والرضى بقضائه وقدره وثقتي في قدرات ابني، وفي ظل غياب شبه تام للتدخل الطبي وشبه الطبي آنذاك من جهة وارتفاع التكاليف من جهة أخرى، استجمعت قوتي وتحليت بقدر كبير من الشجاعة وقررت العمل معه بنفسي، باستشارة من ذوي الاختصاص واعتمادا على التكوين الذاتي، وكنت أرى الثمار فأفرح بها وإن قلّت، لكن الأمر لم يخلو من صفعات، الواحدة تلو الأخرى، أولها رفضه من قبل بعض المدارس بمبرر أنه حالة خاصة تحتاج لمدارس خاصة، ثم نظرة الناس إليه، والصورة النمطية للمجتمع، تارة يصفونه بـ”المفشش”، وتارة بـ”ما عندوش العقل، مريض مسكين”…
ورغم الصعوبات دخل ابني المدرسة بدون مرافق، وتحسنت حالته ومستواه الدراسي بكد وجد ومشقة وضغط نفسي لا حدود له، وبعد استقرار نسبي قررت استكمال دراستي الجامعية بمسلك العلوم السياسية، بعدما تعذر علي استكمالها باللغة العربية التي كنت قد حصلت على إجازة فيها، وعدت لممارسة حياتي بشكل طبيعي تدريجيا، حصلت على الإجازة ثم أنجبت طفلي الثالث، وتابعت دراستي مع مواكبتي لطفلي التوحدي، إلا أنه في نفس السنة التي حصلت فيها على الماستر تأكدت فيها أن طفلي الصغير يحمل نفس الاضطراب لكن بشكل مختلف؛ حركية مفرطة، مشاكل في التواصل الاجتماعي، غياب اللغة المنطوقة، سلوكيات يصعب ضبطها…
الرحلة معه على متن القطار كانت من أصعب التحديات التي كنت أواجهها، وكنت أشعر ببطء الوقت وبُعد المسافة نظرا لحركته المفرطة وعدم تفهم أغلبية المجتمع، ولا أحدثكم عن انتظار الدور عند الطبيب، وأعمال التخريب بالبيت التي تعتبر أحب الأشياء إليه، والصراخ والعصبية.. وقس على ذلك.
بعدما اعتقدت أنني انتصرت على التوحد وما يرافقه من إكراهات، فوجئت بحالة ابني الثاني، فاقتنعت أن التوحد أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتي واهتماماتي اليومية، لا أنكر أنه رغم شجاعتي وإصراري وصبري وتفاؤلي عشت لحظات عصيبة، سقيتها بالدموع مرارا، تارة سرا وتارة علانية، خاصة لما بلغ ابني الأول القسمين الخامس والسادس وأصبح عرضة للتنمر في غياب الأمان المدرسي وتكافؤ الفرص، معاناة داخل الفضاء المدرسي غير المؤهل أوصلته للاكتئاب ورفض الدراسة بشكل كل،ي وباتت حالة القلق ترافقه، حتى بات يتمنى الموت على أن يتم دراسته في تلك الظروف، ولكم أن تتخيلوا شعوري، وما أحسست به وأنا عاجزة أن أفعل شيئا من أجله، كان ظرفا عصيبا يصعب وصفه؛ أن تكوني أما لطفلين توحديين، يتطلب الاشتغال معهما مواكبة وصبرا، والطريق ما زال طويلا وشاقا، أضف إلى ذلك مسؤوليات البيت والعمل، لا أخفيكم سرا معاناة يصعب التعبير عنها .
لكن سرعان ما تتحول المعاناة للحظات عابرة، وأنا أتذكر قول الله عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، ولا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وأتذكر أن الدنيا دار ابتلاء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عجبت لأمر المؤمن، فأمره كله خير، إن أصابته سراء شكر وهو خير له، وإن أصابته ضراء صبر وهو خير له”، فيتبدد حزني وألملم جراحي وأحمد الله تعالى وأنهض من جديد.
ومع ما راكمته من تجربة وتكوين قررت أن لا أكتفي بالعمل الفردي فانخرطت في العمل الجمعوي، فكانت هذه أهم حسنات التوحد التي تعلمت من خلالها كيف أصبح صاحبة قضية، وكيف أضحي بوقتي وجهدي ومالي وراحتي ليس فقط من أجل أبنائي بل من أجل أناس آخرين، كم هو جميل أن يقضي الله تعالى حاجة عباده على يديك ويجعلك سببا في خدمة هذه الشريحة الرائعة، عمل تطوعي نبيل والله لا يضيع أجر من أحسن عملا؛ فعلى قدر ما تجد فيه من مشقة تجد فيه حلاوة وراحة قلبية حرم منها الكثير .
في العمل الجمعوي أدركت القصور القانوني الذي لم ينصف هذه الفئة، في تناقض تام مع المواثيق الدولية، وأدركت عدم إدماجهم في السياسات العمومية وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وأدركت أيضا تيه المجتمع المدني الذي وجد نفسه مضطرا لسد ثغرات الدولة، والقيام بأدوارها على حساب الأدوار المنوطة به مع كثرة الإكراهات، أدركت أيضا أن التوحد يفقر وأن الأسر أنهكت ماديا ومعنويا وباتت عاجزة عن مواكبة أطفالها، وأدركت أننا في بداية الطريق، وأدركت.. وأدركت.. وأدركت….
ومع كل هذا علمني التوحد الكثير، علمني معنى الصبر وقد كان صبري قليل، وعلمني معنى الإصرار، وعلمني أن أرى الأمور بشكل إيجابي، فأرى جمال المصابين به وبراءتهم وابتسامتهم وصدقهم، أجمل لحظات يومي حين يقول لي ابني: أمي أنا أحبك كثيرا، يقولها كل يوم وهو يقبل رأسي وخدي ويدي. علمني أيضا أن أرى اختلافهم جزءا من التنوع البشري، جزءا من الاختلاف الذي جعله الله تعالى سنة كونية، وعلمني أنه لا شيء مستحيل؛ فابني اليوم يتابع دراسته بالتاسعة إعدادي، يخرج بمفرده، ويتمتع بقدر عال من الاستقلالية، والصغير في تحسن ولله الحمد، وإذا توفرت لهم الظروف الملائمة أكيد سيكونان أفضل.
أسئلة ملحة
ماذا لو كانت هذه الأم غير متعلمة؟ ماذا لو كانت لا تجد ما تسد به رمق يومها؟ ماذا لو لم تجد سندا من عائلتها وأصدقائها؟ أتعلمون أن كثيرا من الأمهات يصبن بالاكتئاب، وبعضهن يُطلقن، ويُتّهمن بمسؤوليتهن عن إنجاب توحديين..
أليس من حق التوحديين أن يحظوا بما يحظى به أقرانهم؟ أو ليس من حقهم ولوج المدارس مع الأطفال؟ أو ليس من حقهم أن يحظوا بالعناية الطبية وشبه الطبية اللازمة؟ أو ليس من حقهم أن يحتضنهم المجتمع كما هم، وينظر إليهم نظرة إيجابية بعيدة عن كل ازدراء أو شفقة أو تهميش أو احتقار؟ أو ليس من حقهم أن يشتغلوا ويحظون بحقوقهم كاملة غير منقوصة؟
عار على الدولة ألا تتحمل مسؤولية إدماج هؤلاء الأطفال، وتتكفل بالتتبع النفسي وتسهيل ولوجهم للحياة في كافة المناحي، عار على المجتمع أن يتعايش مع أصناف من الإعاقات الفكرية؛ فساد وكذب وسوء خلق، ويتأفف من مصابين بالتوحد..
التوحدي مختلف مثلك تماما، فلا ترضى له ما لا ترضى لنفسك، والأخذ بيده مسؤوليتنا جميعا.
بعد هذا البوح أمتلك الشجاعة لأقول لكم: هذه الأم هي أنا، وغيري كثيرات. رسالتي إليك أيتها الأم المكافحة؛ استمري مادام قلبك ينبض بالحياة، لتمنحي أبناءك حياة أفضل، يكفيك فخرا أنك أم شخص توحدي.