إغلاق المساجد: الحكم والحكمة

صدر الحكم العام بإغلاق أبواب بيوت الله في وجه القاصدين لها، وتم تنفيده بأمر على الفور، أمر ترك أثرا قاسيا وأليما على قلوب معلقة بها، وحسرة في صدور روادها وعمارها، وكان وقعه شديدا على أنفس المؤمنين جميعا. واختلف الناس إزاء هذا الحكم بين رافض له لكونه مخالفا للقصد الذي من أجله شيدت المساجد، وبين قابل له لموافقته لروح الشريعة ومقاصدها. مما اقتضى ضرورة النظر في الأمر من زاوية شرعية تستحضر الخصائص العامة للشريعة الإسلامية.
بالنظر إلى الحكم الأصلي للمسألة لا أحد يشك في أن الله جعل بيوته مقرا لعبادته وكهفا يلجأ إليه المؤمنون فرارا من فتنة الدنيا وشواغلها، يلبثون فيها ساعة فيحييهم الله حياة يتنعمون فيها نعيما لا ينفد. من أجل ذلك أمر الله تعالى بإعمار المساجد، وأثنى على عمارها، قال تعالى: وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين (1)، وجعل كثرة الخطى إليها دليلا على صدق الإيمان، قال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله (2). وجعل الغاية من قصدها ذكر اسمه وتسبيحه وتعظيمه قال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (3).
في مقابل هذا الأمر بالإعمار وسريان الحياة في المسجد بذكر الله، اعتبر الله عز وجل كل منع لها ظلما عظيما، وسعيا في خرابها، وتوعد من فعل ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة قال تعالى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (4)، كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن منع النساء من الذهاب إلى المساجد؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) (5).
إذن الحكم الأصلي هو الدعوة إلى إعمار المساجد وتعلق القلوب بها وتحريم منع عباد الله من الولوج إليها، لكن هذا الحكم يسري في الظروف العادية والأحوال المستقرة، أما في الأحوال الخاصة والظروف الاستثنائية، كالتي يعيشها العالم في هذه الأثناء في ظل انتشار الوباء، لا بد من استحضار خصائص الشريعة الإسلامية، فهي رحمة كلها، عدل كلها، مصالح كلها، هي شريعة مرنة، مبنية على اليسر ورفع الحرج، وتنزيل الأحكام فيها يخضع للنظر إلى الواقع، فيتغير الحكم بتغير الواقع بناء على قواعد فقهية وأصولية، فإغلاق المساجد من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، ومن باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن باب إعادة ترتيب الضروريات بالنظر إلى المآلات، ومن باب سد الذرائع التي قد تفضي إلى المهالك.
من المعلوم أنه ما من مصلحة محضة خالصة، وما من مفسدة محضة خالصة، بل كل مصلحة إلا وتعتريها مفسدة، وكل مفسدة إلا وتعتريها مصلحة، لذا نضع المسألة في ميزان الترجيح بين المفاسد والمصالح، والترجيح بين المصالح الضرورية التي لابد منها للإنسان ليحيى الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
فبالموازنة بين إغلاق المساجد والإبقاء عليها نجد أن فتحها يحقق قطعا مصالح للمسلمين لكن قد يجلب فسادا لهم؛ بأن تكون صلاة الجماعة سببا من أسباب انتشار الوباء بين المصليين وإلحاق الضرر بهم وبأهليهم، ومن ثم يقدم درء مفسدة المرض على جلب المصلحة.
كما أن الإبقاء على أبوابها مترعة من الأمور المسهمة في الحفاظ على ضروري الدين من جهة الوجود، وغلقها من الأمور المسهمة في الحفاظ على ضروري النفس من جهة العدم، ولئن اتفق الأصوليون على تقديم ضروري الدين وجعله في أعلى قائمة الضروريات الخمس، يليه حفظ النفس، إلا أن ذلك يخص التعارض بين الكليات الدينية والنفسية، يعني حين يتعارض كلي الدين مع كلي النفس، فنقدم مصلحة حفظ الدين على مصلحة حفظ النفس، لذلك نجد الله تعالى شرع الجهاد في سبيل الله، ودعا إلى بذل النفس حفاظا على الدين، وذودا عن الوطن، لكن أمر نازلتنا لا تصدق عليه هذه القاعدة، لأننا أمام أمرين متفاوتين، إذ أن إغلاق أبواب المساجد يعد جزئية من جزئيات كلي الدين، والوباء يذهب بأصلي النفس وكلي النفس لا جزئيه، فإقامة الصلاة متاحة في كل أرض الله الواسعة، وهذه من المميزات التي اختص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته؛ قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) (6)، ولن ينهدم أصل الدين إذا أقيمت في غير المساجد، بذلك يكون حفظ النفس كلي مقدم على جزئي حفظ الدين.
كما يمكن النظر إلى المسألة من زاوية الموازنة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة في حالة التزاحم بينها مع عدم إمكانية الجمع، فتكون المصالح العامة مقدمة في الاعتبار عن المصالح الخاصة، فلئن كان المسلم يجلب لنفسه مصلحة بتعلقه بالمساجد إلا أن ذلك قد يكون سببا في إلحاق الضرر بغيره قد يؤول إلى فتنة للناس جميعا، والضرر منهي عنه في شرعنا.
وهذا باب مهم من أبواب الفقه التي ينبغي استحضاره في إصدار الأحكام التي لم نجد لها أصلا خاصا ولا دليلا معينا في كتاب الله وسنة نبيه، إذ من (أصول الشرائع أنه إذا تعارض المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما) (7)، ومن حكمة الشريعة أنها جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
وأخيرا نسأل الله أن يرفع البلاء ويفتح لنا أبواب رحمته ويجود علينا بفضله، ويأذن لعباده بذكره في بيته، ويكرم ضيافتهم فيها.
(1) سورة الأعراف، جزء من الآية 29.
(2) سورة التوبة، الآيات 17ـ19.
(3) سورة النور، الآية 36.
(4) سورة البقرة، الآية 113.
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده، باب حضور النساء المساجد وفضل صلاتهن في بيوتهن، رقم 1036.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم، رقم 335.
(7) ابن تيمية، مجموع الفتاوي، ج20، ص538.