هل تجبرنا كورونا على مراجعة حساباتنا؟

مما لا شك فیه أن هذا الفیروس، الذي قدر الله أن یقهر الجمیع ویشعرنا بضعفنا وقلة حیلتنا، یهددنا أفرادا وجماعات ودون تمییز بین دول متقدمة أو متخلفة، دون تمییز بین غني وفقیر. نسأل الله تعالى العافیة والسلامة للجمیع، والله خیر حفظًا وهو أرحم الراحمین.
ويظهر جليا أنه في ظل هذه الجائحة الكونیة تغیرت حسابات عديدة محلیا وعالمیا.
فعلى المستوى الاجتماعي؛ أدى الحجر المفروض بقوة الحماية من الفيروس إلى لملمة الأسر بعد طول تشتت وعناء؛ فلا مقاهي ولا انشغالات خارجیة غیر مبررة، مائدة طعام واحدة تجمع الأسرة، وحوار وأنس يعم البيوت بعد التفرق والجفاء، وصلاة جماعية، وتضرّع يُؤمِّن له كل أفراد الأسرة. وأعطیت الأولویة للنساء ببعض الإدارات للمكوث مع أطفالهن داخل أبراجهن، وهو تمییز إیجابي محمود لا يمكننا إلا مباركته.
من تجليات هذا التغيير أيضا تبدد العبث الذي كنا نشاهد تصدره لوسائل التواصل الاجتماعي؛ من محتویات فارغة، فاليوم نرى الكل مشتغل بالكل، ونعيش تقهقرا واضحا للأنانیة. أصبحنا نحس عودة قیم أخلاقیة كثيرة افتقدناها، من قبيل: التضامن والتعاون والتناصح والانشغال بأحوالنا بدل تتبع أحوال الناس وإنفاق الوقت على التفاهات.
وعلى المستوى السياسي؛ أجبر السیاسیون طوعا أو كرها على التنازل عن فتات من ثرواتهم لمكافحة الوباء، الشيء الذي لم یحدث من قبل، رغم الاحتجاجات المتتالية والمطالبة بإلغاء المعاشات، طبعا ليس هذا ما كان يصبو إليه المواطنون حينما خرجوا هاتفين بمحاربة اقتصاد الريع وبالمطالبة بعدم الجمع بين السلطة والثروة، وبالاقتسام العادل للثروة.. لكن على الأقل نشاهد اليوم حلحلة للوضع. وفي المقابل أبان الوباء أن بیت الحكومة أوهن من بیت العنكبوت، وأن وظیفتها لا تعدو أن تكون اقتراحیة أكثر منها سلطة تنفیذیة.
أما ثقافيا فقد تم، أخیرا، إلغاء مهرجان موازین الذي یهدد مقدراتنا وأخلاقنا وثقافتنا، بعد أن صمّ صناع القرار آذانهم عن الاستماع لنبض الشارع منذ 20 فبرایر، لكن الفیروس أجبرهم على ذلك، وألغيت معه المواسم وغیرها.
واقتصاديا؛ ذهبت آراء كثیرة إلى أن الفیروس تم نشره لأسباب اقتصادیة محضة، وسواء كان الأمر صحيحا أم لا، فالأكید أنه ستكون له تأثیرات اقتصادیة محلیا وعالمیا؛ الیوم ینخفض ثمن البترول، وتشل الحركة السیاحیة، مما یجعل الدول العربية التي رصدت أموالا طائلة لإخماد الثورات في طلیعة المتضررین، وتخرج الصین بمكتسبات اقتصادیة بعد شراء الأسهم الغربیة بأقل تكلفة…
إرهاصات تجعلنا نتنبأ أننا أمام نظام عالمي جدید، يخالف ذلك الذي عملت لأجله أمريكا منذ عقود، بحيث لن تنفرد فیه بموقع الریادة.
فثقافیا؛ أظهر الوضع الجديد بوضوح أن المعول علیه هو البحث العلمي، وأن الطبیب والأستاذ و.. أهم من بعض التافهین الذین فتحت لهم المنابر الإعلامیة، وأغدقت علیهم الأموال، ونعموا بأوسمة وازدادوا رفعة، أصبح جليا الآن أن هذه المكانة لا تلیق إلا بالعلماء والمفكرین والمخترعین والباحثین.
وعسكریا؛ أنفقت الدول المتخلفة على الأسلحة ما لم تنفقه على الصحة والتعلیم والخدمات الاجتماعیة، إنفاق لم تستفد منه إلا الرأسمالیة المتوحشة التي راكمت، وما زالت، أموالا طائلة مقابل تصنيع وبيع السلاح، وذلك بعد نشر النزاعات وافتعالها. الیوم يبدو جليا أن هناك حروب، ومنها البیولوجیة، لا ینفع معها سلاح تقلیدي، وأن الأجدى امتلاك العلم الذي بواسطته تستطيع الدول مجابهة أي مشكل محتمل، ولا یتأتى ذلك إلا بدعم البحث العلمي والعلماء.
بعد هذه الشذرات يحق لنا أن نتساءل هل للوباء فضل في أن نراجع حساباتنا؟
حفظ الله الوطن وجميع البشرية من كل سوء.