كيف نرتقي؟ (1)

ترتبط قضية المرأة بالمجتمع الذي تعيش فيه ارتباطا وثيقا، وتتأثر بنظام حكمه السياسي والاقتصادي.. والمرأة المسلمة عاشت، وما تزال، متخبطة بين نظامين متناقضين؛ الأول ينشد التنوير انطلاقا من الذات الحضارية للأمة الإسلامية المنتمية إليها المرأة المسلمة، التي سما بها دين الإسلام فوق كل مظاهر الانحطاط التي كانت تعانيها في عصر الجاهلية، وكل عصر أو مصر تهان فيه المرأة فهو جاهلي، ومتعها بحقوقها الإنسانية كاملة بهية، وهو ما تجلى واضحا في معاملات النبي صلى الله عليه وسلم للنساء وتوصياته بهن. أما الثاني فيتبنى مشروع التنوير من خارج هذه المنظومة من خلال الثقافة الغربية، وهو ما أطلق عليه اسم “المشروع الحداثي”، ومن مآسي هذا المشروع التغريب الثقافي وبعد كنهه عن الله سبحانه وتعالى وتمييع المرأة بدعوى التحرير.
فكيف يمكن للمرأة أن ترتقي بنفسها، كما حصل في أول عهد الرسالة المحمدية؛ من مجتمع مسلم جاهلي يشل حركتها ويهمشها إلى مجتمع تتحرر فيه إرادتها وتنعم فيه بحقوقها التي كفلها لها دينها الإسلامي، بعيدا عن الفكر “المتحرر” المفتون الاستهلاكي؟
وهل تستطيع المرأة المسلمة أن ترتقي بنفسها، وترفع مستوى مواجهة العقبات التي تقف في طريقها لتندمج في عصرها وتتكيف معه دون أن تضطر للتخلي عن ثوابتها الإسلامية، وركائز دينها الحنيف، لتساهم بدورها في بناء المجتمع الإسلامي الحديث؟
المرأة في زمن التحرير
خاضت المرأة في زمن الغزو الغربي معركة “التحرير”، مُحاوِلةً الخروج من قيود التشدد الإسلامي، ومفتونة بمظاهر الحضارة المادية وفلسفتها وإغرائها، فمحقت في نفسها معالم الإسلام الموروث لترتمي في أحضان الحضارة الغربية، وخاضت معركة التمرد ظنا منها أنها ستستعيد حقوقها الضائعة وتسترجع كرامتها المنتهكة.
النساء “تمردن على المجتمع الرجولي الذي قهر المرأة المسلمة فعلا. فهن ينبذن الإسلام ويرفضنه، ويعتنقن قومية المرأة وعالمية حقوقها، ولاييكية ديمقراطية تنصفهن وتمكنهن من ملكية جسومهن يفعلن بها ما يشأن” (1).
المرأة بين الموروث والتجديد
لا ينبغي للمرأة المسلمة العاقلة أن تدخل متاهة لا أمل منها، وتسقط في آفة التقليد الأعمى، فتقطع مع أصولها الثقافية الإسلامية، كما لا ينبغي لها أيضا السقوط في معضلة الجمود الفكري على موروث طبع باجتهادات فقهية مظروفة بوقتها وأحوالها. بل عليها أن تميز بين الشرع الرباني المتعالي على حوادث الزمان والمكان وبين الفقه الاجتهادي الذي يظل سجين ظروفه وواقعه، فتتبع الأول تسليما لله تعالى وحبا فيه ويقينا في صوابه، وتعمل وتطالب باجتهادات جديدة، بخصوص الثاني، تساير ظروف الحياة العصرية وتحتفظ بروح الشرع الحنيف.
“إن انسحاب المرأة من الحياة العامة كان نتيجة عرف تراكم حتى صار حجابا عن قراءة النص القرآني والسيرة النبوية في شأنها… فعلى المؤمنة اليوم مهمات التحرر من قيود التاريخ، ومن قيود تقليد نحلة الغالبين، وما ذلك إلا بالمزاوجة بين فقه النص وفقه واقع المرأة في كل الميادين” (2).
كيف نرتقي؟
يدفع المسلمة ما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من نعيم الآخرة ودرجاتها وعذاب النار ودركاتها، ووعد الله بالجزاء والعقاب تبعا للعمل في الدنيا، إلى اجتهادها في تحصيل ما يبلغها رضا الله تعالى ومحبته وثوابه من عبادة وعمل.
سمع المؤمنون والمؤمنات قوله تعالى “والآخرة خير وأبقى” (سورة الأعلى، الآية 17)، فآثروا الآخرة على الدنيا، الباقية على الفانية، وعملوا بمقتضى هذا الاختيار. وسمعوا “وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا” (سورة الإسراء، آية 21)، فتنافسوا وتسابقوا وتعلقت هممهم بالآخرة ونعيمها الأبدي.
إنها رحلة مجيدة ترتقي بالإرادة الإيمانية درجة درجة من ترك التعلق بالدنيا وزهرتها، إلى التعلق بالآخرة، وما فيها من سعادة ونعيم يكمل بنظرة في وجه الكريم المنان، ومجالسة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء والأصفياء والصالحين من عباده.
من وسط ركام تاريخي أثقل كاهل النساء وواقع متفسخ جعلهن حبيسات أجسادهن ولو غشين النوادي والشوارع، يجب أن تنهض المرأة وتجاهد لاستعادة مكانتها التي بوأها الله إياها في الدنيا طلبا لما عنده سبحانه من مقامات عليا في الآخرة فـ”سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إن آمنوا وعملوا الصالحات، لا إن أخلوا بالشرط الجهادي حالمين بالمدد الإلهي الخارق للعادة، وهو مدد لا يتنـزل على القاعدين بل يخص به الله من قام وشمر وتعب في بذل الجهد، وأعطى الأسباب حقها” (3).
المرأة الفاعلة
جعل الله النساء شقائق الرجال في الشرع إلا فيما استثناه فيما يتعلق بطبيعتها، وقد استوصى بهن الرسول خيرا، فكان يقول لأصحابه، وهو يخاطبهم في حجة الوداع لما علم صلى الله عليه وسلم من أهمية الأمر: “استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا” (رواه البخاري في صحيحه).
لم تكن هذه الوصية تقلل من شأن المرأة وتهمشها، كما أوّلها بعض المفسرين، فاعوجاج الضلع ليس عيبا فيه بل هو تمام كماله في أداء وظيفته، ولكنه اهتمام زائد من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يستوصي بالنساء وبما أودع الله فيهن من مميزات خاصة تدخل في طبيعة خلقهن.
وبناء على ذلك فإن المرأة المسلمة مطالبة بأن ترتقي إلى مستوى التحديات الجديدة، وفهم لغة العصر، والتكيف معه حتى تبتعد عن الانطوائية والتهميش، وتشارك في بناء وتطوير المجتمع مفتخرة بدينها ومعتزة بمبادئها.
ولتكون المرأة فاعلة، يجب أن ترتقي بنفسها وتطور قدراتها، وذلك بالاهتمام بتجديد البعد الذاتي والروحي والمعرفي لديها.
وتجديدها في البعد الذاتي يتطلب تحليها بالوضوح، والتوقف عن خلق الأعذار المعيقة للتطور الذاتي؛ من إحساس بالهوان أو التضخم والتكبر.
أما البعد الروحي فتجدده بالذكر؛ الذي هو دليل على صحوة القلب، وبقراءة القرآن لعلاج أمراض النفس وأسقامها، وبقيام الليل لرفع الهمة وإزالة الغفلة عن القلب، وبالإكثار من الدعاء لطلب المعونة والثبات من الله عز وجل. فإن تحسنت علاقة المؤمنة مع الله تعالى صلح حالها مع خلقه وعياله.
وينضج البعد المعرفي ويتطور عند تأقلم المؤمنة مع وسطها المتجدد المتطور، فالارتقاء الفكري والمعرفي يساعد على التمييز، وعدم الانسياق وراء التيارات الفكرية انسياقا أعمى، ويحصن ضد التعصب والتشدد، ويكسب مهارات التحليل والنقد البناء.
وهذه المدارك تطرق باب المرأة بإلحاح شديد، وتعد من الأولويات التي تستقيم بها الحياة. وعليها أن تجعل كل ما تحصله قربة لله سبحانه وتعالى وطلبا لرضاه، وتستعمله في رعاية أسرتها وأولادها وتوجيهم التوجيه الرشيد.
إن تصالح المرأة مع ذاتها أولا وتقديرها لنفسها هو أول خطوة في طريق النجاح والتفوق والعطاء، فالشجرة المثمرة لا تعطي أكلها كل حين إلا إذا تعهدتها بالسقي والعناية والرعاية.
والحمد لله رب العالمين.
(1) عبد السلام ياسين، “تنوير المؤمنات”، ج 1، ص 43. الرابط على موسوعة سراج.
(2) خالد العسري، “قراءة هادئة في موضوع المرأة الساخن، مجلة منار الهدى، ص 20، العدد 11.
(3) عبد السلام ياسين، “سنة الله”، ص 9. الرابط على موقع سراج.