كيف نرتقي؟ (2)

اهتم الإسلام بالمرأة قبل أن تهتم بها القوانين الوضعية والهيئات الدولية والسلط المحلية، يقول سبحانه وتعالى في بيان وظيفة المرأة: “فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ”. فجاءت الآية الكريمة تعيد الاعتبار للمرأة المسلمة، وتجعلها حاضرة في مجالات الحياة، فالحفظ يوحي بأن هناك ما يضيع إن لم تحضر المرأة، والغيب يعني أن الرجل قد يغيب عن مجالات تحضرها المرأة بدلا عنه. وبذلك تكون المرأة عنصرا فعالا ومشاركا في المجتمع بحافظيتها وفاعليتها في شتى المجالات جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل.
ومشاركة المرأة الفعالة وحضورها في قلب الأمة النابض يستوجب أن يدفعها دوما إلى الرقي والارتقاء لتبلغ أعلى المراتب وأسماها، في مجتمع تتكامل فيه مع الرجل ولا تتضارب فيه المصالح حتى يستطيع المجتمع أن يسير على رجلين متوازنين تتكامل فيه الأدوار.
فكيف تستطيع المرأة التقدم والرقي لمواكبة متطلبات عصرها الحديث وتربية أبناء هذا العصر بذهنية متجددة وبناءة؟
حضور المرأة في البناء المجتمعي
يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة التوبة، 72).
“لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصا أشد الحرص على إشراك المرأة… في مجتمع تتكامل فيه أدوار المرأة والرجل في واجب السهر على دين الله، وحمل العبء، ودعم البناء” (1).
من المسجد كان المنطلق وكان الحضور الفعلي للمرأة، تطل فيه على المجتمع من أعاليه بنظرة شاملة وإرادة صادقة ورؤية واضحة وعزيمة ثابتة لتؤدي كامل مسؤوليتها بالمحافظة على الفطرة، والسعي جنبا إلى جنب مع المومنين في مجال الدعوة، طاعة لله ولرسوله لتكون من الفائزات بالرحمة والمغفرة.
فما بال النداءات اليوم تسعى لإطفاء هذه الشعلة بين مناد لحبس المرأة المسلمة وجاهر بإباحية متنكرة للفطرة وهادمة للقيم الدينية؟
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو أغير من كل غيور على الدين، قال: “إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى المَسْجِدِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ” (2).
ثم يأتي فقهاء فيفتون بحبس المرأة، ويخالفون توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرمون المرأة من البناء والعطاء بدعوى اتقاء الفتنة. لكن قفل الانطوائية انكسر بفعل نداءات مدوية بتحرير المرأة التحرير الدوابي، ولئن لم تعد المرأة سجينة الجدران فقد أصبحت سجينة التبرج والفتن.
من هذا المنطلق تحتاج المرأة إلى صدق حقيقي بعيدا عن المزايدات السياسية، والصراعات المذهبية الضيقة التي تهدف لخدمة مصالحها الذاتية ومعاركها الخفية على حساب مصلحة المرأة.
لا يمكن للمرأة أن تنهض وترتقي في ظل واقع سياسي يسوده الاستبداد، ووضع اقتصادي هش، وواقع اجتماعي منحل.
لا يستقيم حضور المرأة ورقيها مع وجود أنظمة تعيق مسيرتها، وتهمش دورها، ولا تعترف بحقوقها، ولا تقدر مكانتها في بناء المجتمع.
إن بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم توحي بخلاص هذه الأمة الجماعي الذي لا ينفصل عن الخلاص الفردي للمرأة، باعتبار أن قضيتها الوجودية المصيرية هي قضيتها مع ربها جل وعلا، ومع مسؤوليتها التي ستسأل عنها يوم القيامة.
المرأة المسؤولة المجاهدة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ … وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا..”.
“مِثْلُ هذا الحديث العظيم حين تتلقاه قلوب زكية وعقول ذكية وضمائر حرة من التقليد، وأرواح نشأت في عبادة الله ونُشِّئَتْ عليها، يدور فَهْمها ويتجوهر حول مفهوم المسؤولية. (..) أما معنى المسؤولية حين يلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفهمها العقول وتعيها القلوب التي تقرأ القرآن وتعيه فهو الوقوف بين يدي الله عز وجل غدا يوم القيامة ليُسأل الإمام والرجل والمرأة والأب والإبن، ويُجازوْا عن أعمالهم، يُثابون إِن أحسنوا عملا، ويعاقبون إن أساءوا” (4).
هكذا يجب أن تفهم المسؤولية الحقيقية البعيدة عن كل شعور بالتبعية، والبحث عن راحة الضمير، والاعتزاز بالنفس بأداء المهمات الصعبة، أو الخوف من لوم اللائمين.
الحديث الشريف شرّف قدر المسؤولية وجعلها مفتاح العمل الصالح. لكن لغة العصر تقرأ حسب فهمها الخاص فتترجم الحديث العظيم وتقزم معناه من (كلكم راع ومسؤول) إلى (كلكم رعية ما عليكم إلا السمع والطاعة) لتفرغه من روحه الجهادي ومسؤوليته العظيمة إلى تبعية وذهنية رعوية وانقيادية، تهدف إلى تهوين المسؤولية وتهوين حقوق الله وأوامره تعالى في ذهن المرأة؛ (فإذا وقعت في خطأ أسرعت بتقديم الأسف والاعتذار (لرؤسائها). أما عن أوامر الله فهي هينة عندها، لا تباليها، ولا يتحرك فيها إحساس الحرمة والعقاب) (5).
إن مسؤولية المرأة في بيتها لا تحرمها من الوقوف بجانب الرجل في ساحة الجهاد، التي تتطلب وقوف القوة بجانب الأمانة، لأن المرأة تسند قوة الرجل بعفتها وأمانتها، وتسند قوامته بحافظيتها.
إن الجهاد الحقيقي في مسيرة المرأة هو جهاد النفس في تغيير الذهنية الرعوية وإعلاء القيم الإنسانية النبيلة وتبليغ الرسالة الربانية.
ولكي لا يبقى الإسلام جسدا بلا روح، فلا بد من قول كلمة حق أمام نظام فاسد، فإن كان القتال في ساحة المعركة يتطلب صبر ساعة وأيام، فالجهاد لبناء الأمة وتنشئة أجيال الخلافة يتطلب صبر عمر بأكمله.
تعليم المرأة
التعليم الصانع للذهنية الرعوية والتبعية والبطالة غير الفاعلة هو تعليم فاشل لا ثقة فيه. والرغبة في التعليم عن رضى وطواعية بوجود نظام تعليمي منسجم، وبناء يلقن النفوس الفتية ويعلمها قيمتها بوجودها، ويعيد ثقتها بنفسها أولا وبه كنظام يشارك في بناء الفرد وإنهاض المجتمع وصنع مستقبل الأمة، هو المطلوب.
ولوصول هذا الهدف لا بد أن يبارك الإيمان والدعوة مسيرة النظام التربوي والتعليمي، فتسبق التربية التعليم، حتى يؤتي العلم أكله ويستفيد منه المجتمع فيصبح صالحا، ويجني الكل الثمرة الناضجة المثمرة. يجب أن نربط الزرع بالخالق لأن بذرة العلم النافعة تسقى من ماء التقوى والورع، ولا تعتمد على الغش والتدليس والزبونية، فإن تأدب العلم وتحلى بأخلاق الإيمان كان نافعا للأمة عامة وللمرأة خاصة، فالأم مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق.
وللأمهات دور في إنشاء جيل جديد وبناء إنسان متميز حر ومسؤول؛ لا يقبل القمع السياسي، ويلجأ إلى المناقشة والمجادلة البناءة لتغيير واقعه إلى الأفضل، يوصل النظرية بالتطبيق، والبحث بالنتائج، والنتائج بالمصلحة العامة.
خاتمة
قال الله تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة، 56).
إن هذا الخطاب الرباني موجه لكل مومن مجاهد ومومنة مجاهدة لكي لا تضعف عن تحمل أعباء العمل الجماعي، وتسعى دائما للرقي والاجتهاد؛ فهي ذليلة على المومنات بمحبتها وعطائها، عزيزة على الكافرات بعفتها ورزانة عقلها وقوة منطقها، لتكون القدوة والقائدة، لا التابعة، فكما لبنات الدنيا زينة يحببنها كحب الله تفتخر المؤمنة بكونها من اللواتي كن أشد حبا لله ورسوله.
آمين، والحمد لله رب العالمين.
(1) مجلة “منار الهدى”، العدد 11، ص 11.
(2) رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) جزء من حديث: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”. أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.
(4) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، الجزء الثاني، ص301.
(5) إبراهيم محمد الجمل، “كبائر النساء وصغائرهن وهفواتهن”، ص 81.