سيدة نساء العالمين 10: وسام الشرف

الحمد لله الذي يرانا ولا نراه، الحمد لله الذي جل في علاه. أشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، فاز من والاه، وخاب من حاربه ودساه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبده ورسوله ومصطفاه، جلى عليه الله نورا فما أجمله وما أبهاه، وأدبه ربه فما أكرمه وما أطهره وما أنقاه، اللهم صل عليه وعلى كل من اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم نلقاه.
أما بعد،
فيقول المولى عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (آل عمران: 142).
أيها الأخوات والإخوان؛ على بساط شقائق النعمان، وقد فاح روح وريحان، وعبق مسك من الجنان، وحفت بنا ملائك الرحمان، حتى أضحى المكان غير المكان، والزمان غير الزمان، نلتقي مرة أخرى مع أمنا خديجة عليها الرضى و الرضوان.
كان تعذيب قريش وإيذاؤها شديدا، لكن كان أمامهم صمود وشموخ كبير من مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين معه.
وأمام هذا الإصرار والشموخ لجأت قريش إلى خطّة رعناء تحدت بها كل الأعراف العربية، وضربت بعرض الحائط كل المواثيق القبلية، وحاصروا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به ومن ناصرهم من المشركين، حاصروهم حصارا لا رحمة فيه، حتى اضطروا إلى الخروج إلى شعب أبي طالب فيقيموا فيه.
كان هذا الحصار [1] شديدا، وأصاب المحاصرين فيه إرهاق وجوع وسغب وإملاق، وشد المشركون الخناق، ومنعوا المؤن وشدوا الوثاق، حتى بكى صبيانهم وحن لهم بعض خصومهم.
هذا الحصار الأرعن دام ثلاث سنين، من هلال شهر محرم من السنة السابعة إلى ختام السنة العاشرة.
ونترك سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان من المحاصرين، وكان أيامها شابا صغيرا قويا يصف لنا شدة هذا الحصار وقسوته؛ قال رضي الله عنه: “خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثا”.
كانت هذه حال شاب قوي جلد، فبالله عليكم كيف كان حال الأطفال؟ كيف كان حال النساء؟ كيف كان حال الشيوخ والعجائز؟
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها داخل هذا الحصار.. لم تتخلَّ عن زوجها ولم تتنازل عن موقفها، ولم تبع دينها بعرض من الدنيا قليل. ظلت صابرة محتسبة وهي ترى بنياتها يتضورن من الجوع، والشدة تزداد أسبوعا بعد أسبوع. لم تتوانى ولم ترتجف ولم تخف ولم تتراجع، ما أخافتها ريح صلصل ولا سموم حميم، ولذلك أكرمها السميع العليم بهدية نوعية ما لها نظير.
يروي الإمام البخاري في صحيحه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتْك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنِّي، وبشِّرْها ببيت في الجنة مِن قصب، لا صخبَ فيه ولا نصب [2].
يا سلام… من سلم عليها؟ سلم عليها رب السماوات والأرض، ملك يوم العرض، الذي وسع كرسيه السماوات.
فماذا أجابت رضي الله عنها؟ ماذا قالت وهي تسمع البشرى؟
أجابت في خضوع رهيب، قالت: إنَّ الله هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام، ورحمة الله وبركاته.
لو كانت النساء كخديجـة ** لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ** ولا التذكير فخر للهلال
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.
[1] قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: “لما رأت قريش أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلو والأمور تتزايد، أجمعوا أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة.. فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبني هاشم وبني المطلب، وحبس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه في شِعْب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين مضيقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجَهْد، وسُمِعَ أصوات صِبيانِهم بالبكاء من وراء الشِّعب”.
[2] زاد الطبرانيُّ فقالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وللنسائي من حديث أنس قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يُقرئ خديجة السلام، يعني فأخبرها، فقالت: إنَّ الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام، ورحمة الله وبركاته.