التوجيه الإعلامي وأثره في تشكيل الأذواق والاختيارات

لا شك أن آفة التمركز الغربي حول ذاته “المتفوقة” تلقي بآثارها المائلة الممِيلة على فلسفة الإعلام الغربية فتصبغها بصبغتها، ويُقصد بفلسفة الإعلام ذلك “الإطار الفكري الذي تتحدد على هُداه منطلقات العملية الإعلامية وغايتها، ومنهجها في تحقيق هذه الغايات، والذي يعد بمثابة المعيار الذي يحكم في ضوئه على مدى نجاح العملية الإعلامية في مجتمع ما أو إخفاقها”(1)، وتأتي العملية الإعلامية ذات المرجعية المتفردة متحيزةً ومشوِّهةً للحقيقة مزيِّفة للخبر، مؤثرة تأثيرا خطيرا في تضليل الناس واستغفال عقولهم، وذلك بإتقان المهارات التصويرية واللغوية والنفسية التي تقلب الخير شرا والشر خيرا، وتعكس الحق باطلا والباطل حقا، فتجعل من المظلوم ظالما ومن الظالم مظلوما، حيث “إن نفوذ الوسائل الإعلامية في عمليات التنويم المغناطيسي الجماعي للشعوب والجماهير وغسيل أدمغتها يعتبر مذهلا ومخيفا في آن واحد. فإنها قادرة على أن تصبغ اللون الأحمر ليكون أحمر عندما يخدم أجندة أصحابها، ولكنها تستطيع أيضا أن تجعل الأسود أحمر وتدعي أن من لا يرونه كذلك مصابون بعمى الألوان”(2).
إن عشرات بل مئات من المديرين التنفيذيين للمجلات والجرائد والقنوات المشهورة المندفعة وراء تحقيق الأرباح الفاحشة يستطيعون السيطرة على ثقافة الأمم بكاملها وتوجيهها الوجهة المطلوبة من طرف الشركات التجارية الكبرى، فتصغر الأمور العظيمة حتى تظهر وكأنها لا قيمة لها، وفي مقابل ذلك قد تعظُم بعض الأمور الحقيرة وتبدو جيدة وعظيمة. وما ذلك إلا لأن الهيمنة الإعلامية الغربية جزء لا يتجزأ من النظرية الاجتماعية الغربية. فالقيم الدينية قضايا هامشية لا يلتفت إليها إلا من حيث اعتبارها تقاليد لبعض الأفراد والأقليات الموزعة هنا وهناك في أطراف العالم. أما المال فيتحالف مع الإعلام لصناعة الرأي والموقف والسياسة والاقتصاد، حتى أن “سطوة الإعلام ونفوذه.. توضح لنا كيف يستطيع تآلف مُكون من الإعلام والمال والتسويق على صنع رئيس أو الإطاحة به”(3).
ففي خضم العملية الإعلامية، سواء في إطار ما يسمى بالإعلام الحر (الليبرالي) أو ما يسمى بالإعلام الموجَّه فإن مضامين الأشغال الإعلامية تظل وفية لمنهجية متحكم فيها ولا تخضع للضوابط الإعلامية “الحيادية” إلا شكليا، أما في المضمون فهي تخدم مصالح الجهات المتنفذة ماليا وسياسيا وإيديولوجيا، لهذا نجد الكثير من الأبحاث تنصرف إلى أداء وظيفة سياسية أو استخباراتية، مثل الدراسات التي تنجز من أجل تطويع المواطنين والتحكم فيهم.
تضخم نفوذ الشركات الكبرى وسيطرتها الإعلامية لتصل إلى السيطرة على مراكز البحث وإنتاج المعرفة في مختلف فروعها النفسية والطبيعية والإنسانية، “لقد أصبح التطور العلمي عامة والتقني خاصة يسائلنا في حياتنا اليومية بعد أن تدخل الاقتصاد والسياسة في مصير العلم؛ وأصبحت الشركات الكبرى هي التي تحكم مآل تطبيقات التقنية، لتوجه البحث العلمي نحو هدف واحد هو الربح المادي. بهذه الكيفية ارتبط العلم بالاقتصاد والسياسة ليصبح العالم في أحسن الأحوال خادما للسياسي وللمقاول”(4) وليس خادما لقيم الحق والعدل والخير.
وإذا كانت ثمة محاولات بحثية جديدة أخذت تترعرع في ظل بعض الهيئات والمنظمات الدولية، كالفاو واليونسكو وغيرها، إلاّ أن المنطلقات المعرفية لمثل هذه البحوث مخلصة لروح فلسفات الإعلام الوضعية، ومشدودة إلى المنهجية الغربية (5)، وبالتالي بقي الإعلام الغربي عموما نسخة طبق الأصل للرؤية الفلسفية المادية، خادما للمقاصد الاستراتيجية الغربية في السيطرة والتطبيع والإدماج (6)، وقد تجلى ذلك في استغلال القدرات الإعلامية الهائلة في نشر قيم العولمة الغربية التي لا تعترف للأمم بثقافتها وفلسفتها المعبرة عن رؤيتها الحضارية في الخلق والحياة والدين والعلم والتاريخ، بل تلغي الخصوصيات الأخلاقية والثقافية والحضارية للشعوب، وتسعى إلى تذويب الاختلاف وإلغاء الخصوصيات لصالح ثقافة واحدة مستعلية ومتفردة. إن “العولمة ليست فقط هي هذه القوى الاقتصادية الكونية الجبارة التي تذرع الكون كله، وليست فقط في هذه القوى التكنولوجية الهائلة المنفلتة من عقالها والمتجهة نحو تحقيق المزيد من القوة والتحكم في الكون كله؛ أي في الكوكب الأرضي، وفي الإنسان، وليست فقط هي هذه القوى الإعلامية والمعلوماتية والثقافية الممسكة بتلابيب الأرض، بل هي بالإضافة إلى كل ذلك “روح” ونظرة وتصور. فالعالم من منظور العولمة… إنما هو سوق كوني كبير مسكون بمستهلكين فعليين أو افتراضيين. إن العالم، في هذا التصور فضاء تجاري لإنتاج وتسويق السلع المختلفة المادية منها والرمزية كبضائع قابلة للاستهلاك… والقوانين التي تحكم هذا العالم هي قوانين السوق، بما تقتضيه من حرية، وانعدام حدود، وغياب جمارك وفق المتطلبات الاقتصادية الليبرالية الجديدة” (7).
وتعتمد العملية الإعلامية المتحيزة غربيا على استراتيجية التشويه وتزوير العلم والتاريخ والواقع، مثل كتاب “ما هو الإسلام؟what is Islam? ” وكتاب “الإسلام في الشرق الأفريقيIslam in East Africa ” وكتاب “العرب والرقيق” (8) ومعها المئات من الكتب والمجلات والجرائد والمؤلفات التعليمية، التي تُدسُّ فيها الأفكار والآراء الموجّهة ضد المسلمين، مع العلم أنها تحرص على تقديم الإسلام كإيديولوجية دينية وسياسية متطرفة ومتخلفة، وليس دينا يحمل قيم العالمية والرحمة والعدل والكرامة. فالإذاعات المسموعة والصحافة المقروءة تحفل بصنوف الأضاليل والأشكال المختلفة لتزييف الوعي الجمعي وشحنه بمقولات قبْلية تمارس تأثيرا قويا وواسعا على المشاهدين في كل مكان، وتصدر “الهلع من الإسلام” إلى العالم. مثلا “في أخبار قناة (إن. بي. سي) (NBC) في أواخر عام 2001، أعلن فرانكلين جراهام – ابن القسيس بيلي جراهام وخليفته – أن الإسلام “ديانة شريرة جدًّا ومؤذِية جدًّا”. وفي برنامج “هانيتي وكولمز” للأخبار في قناة (فوكس) في سبتمنبر من عام 2002، وصف القسيس بات روبرتسون (Pat Robertson) النبي محمدا بأنه: “متعصب ذو عين شريرة على الإطلاق… وهو لص وقاطع طريق… وقاتل”، وأعلن أن “تصور الإسلام على أنه ديانة مسالمة خداع”. كما وصف جيري فالويل (Jerry Falwell) عند ظهوره في برنامج ستين دقيقة في قناة “سي. ب. إس” (CBS) في عام 2002 – النبي محمدًا بأنه “إرهابي”، لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى تأليف موسوعات كبرى متخصصة في اتهام الإسلام وتشويه صورته في العالم، مثل “موسوعة القرآن (Encyclopedia of Qur’an) الصادرة عن دار النشر الهولندية (إ. ج. بريل) (E, J, Brill) بإشراف المستشرقة الكندية جين ماك أوليف (Jane Mc Ailiffe) وتقع في ستة أجزاء. وقد جمعت هذه الموسوعة بين دفتيها من الافتراءات والأباطيل على القرآن الكريم، مما فاضت به كتابات المستشرقين المتقدمين والمحْدثين من الطعون والشبه” (9).
وهذا التحيز المرضي لا تردعه تلك الأصوات الغربية التي تعترف بخطورة التشويه الإعلامي للإسلام والمسلمين، وتنبه إلى ضرورة التمسك بالموضوعية، كقول “سلفيا ايغلي فون” مديرة المدرسة السويسرية للصحافة عن صورة الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي: “نعلم أن الموضوع محفوف بالكثير من الأفكار المسبقة، ولكن علينا أن نتحلى بضرورة البقاء منفتحين أكثر لإعادة النظر في طريقة تفكيرنا ولا ننسى أخلاقية المهنة” (10)،
أما السينما الغربية فقد أيدت وزينت الرؤية الغربية للوجود والحياة والإنسان، وجعلت من قيم المنفعة الحِسية والقوة والعنف والاستكبار مقياسا للمعرفة والأخلاق والسلوك. واتخذت من الآخر موقفا سلبيا يمكن تسميته بـ”الغيرية السلبية”، التي تنزع عن الغير صفاته الإيجابية وتعريه من كل وصف جميل، وتلحق به كل النعوت القدحية التي أُحيطت بأوصاف شنيعة من قبيل: الهمجي، المجرم، البدائي، العِدائي، المتخلِّف، الإرهابي… وترسم حدودا حديدية بين هويتين أو عالمين؛ عالم الغرب الجميل والديمقراطي والعقلاني، والعالم الآخر؛ عالم الرذيلة والديكتاتورية واللاعقلانية. وكرَّست هذه النظرة وأسهمت بإرسائها لرأي شبه موحد في العقل الجمعي الغربي الآلة الهوليودية بكل دقة وفاعلية وإتقان، فأمسى المسلم نموذجا سلبيا يحيل إلى التخلف وتجارة الرقيق والبدائية والغلظة في الطباع… في مقابل الإنسان الغربي ذي الثقافة الحداثية الذي يبدو الأنيق والقوي والذكي والديمقراطي، مما يعطي انطباعا في المادة الإعلامية على أن الغرب هو الحل وغير الغرب هو المشكل. حتى أن فيلماً مثل “عرب زنجبار” يقدم “ممباسا” نموذجا للمدينة المحمدية المسلمة وهي تشكل مركزاً لتجارة الرقيق مما يوحي للمشاهد بأن مدينة الإسلام هي مدينة بيع الإنسان وانتهاك حقوقه ودوس كرامته !
الحقيقة أمست تُصنع كما تصنع البضاعة، وتُفرض على الناس تحت ضغوط شتى، فإن الإعلام قد أكثر في زمننا استعمال مفهوم “الإرهاب” استعمالا إيديولوجيا مُغرضا يكاد يملأ على الناس سمعهم، ومعلوم أن الغرض من صناعة المفاهيم الإعلامية هو ترويج خطة سياسية واقتصادية استراتيجية بقوة خاصة تروم السيطرة على الآخر وإخضاعه لمنطق الغالب، وإدماجه طوعا أو كرها في تنفيذ سياساته وترويج بضائعه. وهذا لا يخفى من خلال الاستعمال الفج والتوظيف الإعلامي التشويهي للحقائق كما تؤكد ذلك المستشرقة الألمانية أنامارِي شِمِل.
وعلى غرار ذلك يتم تشويه الآخر وتلطيخ صورته، وذلك بتحريف الكلم عن مواضعه، واستعمال الصورة والحدث في غير محلها، ونزع الخبر من سياقه الحقيقي وزرعه في سياقات مخالفة تخدم رؤية الباحث وخطته في تشويه غيره. ففي أمريكا مثلا تستحوذ المنظمات الصهيونية العالمية على وسائل الإعلام الكبرى (مثل القنوات التلفزية الكبرى (N. B. C و C. B. S وA. B. C) والجرائد الكبرى أيضا؛ (النيويورك التايمز، والواشنطن بوست…)، وتفعل بها ما يحقق مصالحها في العالم كله، ويُحسب لها من طرف السياسيين والاقتصاديين وأهل الفن والرياضة، بل وأهل العلم الطالبين للشهرة أيضا ألف حساب، إذ إن الرؤساء يخطبون وُدَّها وينفذون سياستها. وبذلك تبدو أمريكا اليوم وفية لإسرائيل ومدافعة عن موقفها ورافعة لحق الفيتو لحمايتها، عبر سيولة المعلومات المكتوبة والمسموعة والمرئية. ومنه أيضا نفهم لماذا يقدم الإعلام الغربي صورة متحيزة عن الإسلام والمسلمين، من خلال الصحف الأكثر قراءة والنشرات الأكثر متابعة والإذاعات المنتشرة في كل مكان. ويتأكد ذلك من كون الكتابات التي اهتمت بالمسلمين والعرب غالبا ما تنطلق من فرضيات وتعميمات جاهزة، تنطمس خلالها الكثير من الحقائق وتُقدم عبرها صورا حافلة بالأوهام والتخمينات والاتهامات والأحكام الجاهزة (11)، هذه الصور تشكل عائقا ذهنيا عند الغربيين فتشوش عليهم معرفة الآخر كما هو وتعطل فعل التعارف معه، مما يقتضي تصحيح هذه القناعات التصورية في فلسفة الإعلام الغربي كي ينفتح على المسلمين دون أن يفرض رؤيته التأحيدية التغريبية الاستعلائية.
(1) السماسيري، محمود يوسف. فلسفات الإعلام المعاصرة، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص: 32.
(2) زلُّوم عبد الحي، نُذُر العولمة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 2000م، ص: 295.
(3) المرجع نفسه، ص: 293.
(4) الباهي، حسان. العلم بين الأخلاق والسياسة، مجلة الإحياء، المغرب، عدد 26، 1428هـ/2007م، ص: 169.
(5) عواطف، عبد الرحمن. التبعية الإعلامية الثقافية في العالم الثالث، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت، 1984م، ص: 175 – 179.
(6) أبو عزة، عبد الله. حوار الإسلام والغرب، دار المامون للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1،1427ه/2006م، ص: 239-240.
(7) سبيلا محمد، في الشرط الفلسفي المعاصر، إفريقيا الشرق، البيضاء، ط1، 2007م، ص: 105-106.
(8) الحداد، محمد أحمد مشهور. حقائق تاريخية عن العرب والإسلام في أفريقيا الشرقية، دار الفتح، ط1، 1973م، ص: 140-141.
(9) التويجري، عبد العزيز بن عثمان. القرآن الكريم مصدرا للمعرفة ومحورا للنشاط الفكري، مجلة الإسلام اليوم، عدد 27، ص: 17.
(10) في مشاركة لها بملتقى دولي حول موضوع “دور الإعلام الغربي والعربي في العلاقة بين الغرب والإسلام”، الذي انعقد بمدينة لوغانو جنوب سويسرا، بدعوة من المرصد الأوروبي للإعلام يومي 16 و17 مارس 2007، بحضور خبراء عرب وأوروبيين وأمريكيين، ينظر:
ttp://www.swissinfo.ch/ara/front.html?siteSect=105&sid=7637460&cKey=1174642295000&ty=st
(11) ساعي، محمد نعيم محمد هاني. الخطاب الديني بين تحديث الدخلاء وتجديد العملاء، دار السلام، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص: 238.