أطفال متشردون زمن كورونا

قررنا، جريا على عادتنا أنا وزوجي في بعض الأحيان، أن نغير من رتابة الحياة وأن نتناول وجبة الفطور خارج البيت، في مكان هادئ بعيد عن ضوضاء المدينة. وقد وقع اختيارنا على مقهى ذو واجهتين زجاجيتين إحداهما تطل على البحر المتوسط الذي قاسمنا هدوءه بعد أيام مضت كان في هيجان وغضب مريع. منظر هدوئه الساحر، وقد توزعت فوق أرجاء سجادته الزرقاء قوارب صيد صغيرة تحت سقف سماء صافية انتشرت فيها بعض الغيوم، يخطف الأنفاس ويعطي للأجواء بهاء وجمالا.
وبينما نحن نتناول ما جادت به مائدة الفطور الصباحي، إذ ظهر أمامنا طفل صغير في الشارع المقابل، خلف الواجهة الزجاجية، في سن العاشرة تقريبا، يرتدي ثيابا رثة ويبيع المناديل الورقية ويطلب منا شراءها منه، فاعتذرت له، وإذا به يلوح لي من خلف الزجاج بيده بحركة فهمت منها أنه يريد طعاما يسكت به جوعه، آلمتني حاله فقطعت فطوري وذهبت نحوه أحدثه مستفسرة عن حاله، وبعد حوار قصير دار بيننا، علمت أنه انقطع عن الدراسة بسبب ظروفه الاجتماعية الصعبة، فهو يبيع المناديل طيلة اليوم ليساعد أمه التي بدورها تقاسي وتعاني من عملها في حمل السلع المهربة من “باب سبتة” وتعول أسرتها المكونة من خمسة أطفال وأبيهم الذي أصيب بمرض منذ سنتين أصبح بسببه طريح الفراش ومقعدا.
كيف لهذا الواقع المزري أن يساعد في صقل شخصية هذا الطفل ليصبح في مستقبل أيامه منتجا في المجتمع، وهو يجتر كل هذا الألم والمعاناة، ويعيش طفولة مهمشة محرومة بائسة، لاشك سترخي بظلالها على ما بقي من حياته؟
لن أنسى شدة تأثري بملامح ذاك الطفل الجميلة البريئة المليئة بالحزن، ولا تينك العينين اللتين حدثتاني بغصة عميقة فياضة بكل أنواع الألم والخوف من المجهول، واللتان رغم الظروف القاسية لم تفقدا من جمالهما الأخاذ شيئا. أحتاج لمليون قصيدة كي أشرح كيف كانت عيناه تخاطباني بحزن عميق آلم قلبي. ناهيك عن جسده الهزيل الذي يتحدى به الكون بأكمله.
وما هي إلا لحظة حتى التحق به بقية رفاقه، ثلاثة أطفال يعتريهم نفس الوضع ونفس حالة الجوع والفقر. حقيقة يخوننا التعبير والوصف في مثل هذا الموقف؛ هي لوحة تحمل الكثير من معاني البؤس والحرمان؛ أرصفة وطرقات لا يتنفسون فيها سوى رائحة دخان السيارات، ولا يملأ عيونهم إلا غبار الأزقة والشوارع، وجه مكشوف طول اليوم للهيب الشمس الحارقة في الصيف، وجسد يعتريه البرد والجوع في الشتاء. إنهم أطفال منتشرون على أرصفة الشوارع الرئيسية، قرب المحلات التجارية وأمام المقاهي والمطاعم ومواقف السيارات. نشعر بالحسرة والألم عند مشاهدتهم وهم في عمر الزهور يعانون من الجوع، أو يتقاتلون على بقايا الطعام، أو يتعاطون المخدرات. إنهم يحتاجون منا إلى اهتمام حقيقي بقضيتهم وانتشالهم من الضياع الذي يعيشونه، والأكيد أننا إن تظافرت جهودنا فسنستطيع المساهمة في التغيير الذي يستحقونه، والمتمثل في غد أفضل يساعدهم على تحسين وضعهم التعليمي والاجتماعي.
من المسؤول عن هذه الطفولة التي كبرت حتى شاخت من الجوع جراء تحملها لكل هذا البؤس والضياع؟
أين الدولة والمجتمع من مسؤوليتهما تجاه هذه الطفولة؟
وكيف نساهم في إنقاذها من هذا الوضع المزري الذي تعيشه؟ خاصة اليوم ونحن نواجه محنة “كورونا”، فهم بحاجة ماسة، أكثر مما مضى، إلى الاهتمام والرعاية، و لا يكفي الحجر الصحي بوضعهم بين جدران دون أن تخصص لهم الدولة نصيبا يكفي عوائلهم ويغنيهم عن السؤال من الصندوق الخاص بتدبير جائحة “كورونا”، خلال فترة الطوارئ الصحية. وهي كذلك فرصة ليتحمل المجتمع المدني مسؤوليته نحو هذه الفئة المهمشة، بالتسارع إلى إبراز روح التكافل، فكلما حظي الأطفال بما يستحقونه من رعاية، كانوا مصدر قوة وعماد المستقبل، لأن أساس ازدهار الدول وتقدمها يكون في إعداد أطفالها ليكونوا قادة يحملون لواء العلم والمعرفة والثقافة والتقدم.
تقديم على ما يجب القيام به زمن كورونا
توفير التعليم لهم، وهو أبسط حق يجب أن يظفر به هؤلاء الأطفال، فمكانهم الطبيعي هو المدرسة بدل أن يكونوا مشردين في العراء؛ يتوسدون التراب ويلتحفون السماء ويمدون أيديهم للمارة طلبا للطعام. وحرمانهم من هذا الحق الأساسي والطبيعي يقضي بالتأكيد على كل أحلامهم وطموحاتهم التي تساورهم دون استطاعتهم السعي في تحقيقها، ولا يتأتي هذا إلا بتحقيق الضروريات من متطلبات أسرهم حفاظا على كرامتهم وإنسانيتهم.
الأطفال هم أهم موارد الحياة؛ فهم عبقها ونسيمها، وتربيتهم تحتاج تضافر الكثير من الجهود لتحقيق شخصية ناجحة، واثقة في نفسها، متمكنة من قدراتها، طموحة، مساهمة مسقبلا في بناء المجتمع ونموه. وحرمانهم، بالضبط في هذه المرحلة الحساسة من عمرهم حيث تنمو خلايا جسمهم ويشتد عودهم ويكتمل نموهم الفكري والعاطفي، من شأنه أن يقتل فيهم قوة الإرادة وشغف العيش والتحدي والإصرار لتحقيق النجاح في الحياة، وهي صفات إنما تنتج عن احتضان أسري مترابط ناجح بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فكيف لطفل يقضي يومه متسكعا في الشوارع يبيع المناديل محروما من عطف أمه وأبيه ومن رعايتهما أن يكون سعيدا. هم أطفال لم يختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا عرضة للمهانة والذل والحرمان، وأن يعيشوا هذه الحياة القاسية الباردة المجردة من أي إحساس بالحنان والدفء؛ محرومون من مراقبة وعطف الوالدين ورعايتهما التي يحتاجونها دون شك. فكيف ينتظر أن تكون شخصيتهم في مستقبل أيامهم، بعد أن جعلوا مجبورين من الشوارع دارهم ومقرهم اليومي الذي يقضون فيه معظم أوقاتهم حتى صارت مسرحا لكل آلامهم وأوجاعهم. في الوقت الذي يجب فيه أن يتمتعوا بحقهم في البقاء والنمو بشكل سليم وبالحماية من أي ضرر قد يقع عليهم.
للأسف؛ تعتبر ظاهرة تشرد الأطفال ظاهرة خطيرة جدا تلوث المشهد الحضاري لأي دولة، وتضرب موازين الإنسانية وحقوق الإنسان عرض الحائط؛ وهي ظاهرة منتشرة في وقتنا الحاضر خاصة في دول العالم الثالث حيث الفقر والجوع والحروب، ولا تقتصر مظاهرة تشرد الأطفال على تسكعهم في الطرقات والشوارع، ونومهم خارج بيوت أسرهم، إنما تمتد إلى مشاكل أعقد من ذلك بكثير، إحدى سماتها انتشار ظاهرة تسول الأطفال، والسرقة أحيانا، وتعاطي المخدرات السامة، وهو ما من شأنه أن ينتج طفلا منحرفا يميل إلى الجريمة، مهزوز النفسية، مختل الشخصية، إذ يشكل انفصال الأطفال عن بيئاتهم الأصلية بذرة التشرد الأولى، وبداية دمار المجتمع وبنيته الأساسية. وكلما أسرعنا في إيجاد الحلول المناسبة للحد من هذه الظاهرة كلما كان أفضل لهم وللمجتمع برمته، والمدخل لذلك يجب أن يكون على مستوى مؤسسات الدولة المعنية بالطفل والأسرة بتنسيق جماعي مع مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية ودور الرعاية مع انخراط جميع فضلاء المجتمع، ولا يمكن حماية هؤلاء الأطفال من التشرد والضياع وحماية المجتمع من تبعات ذلك إلا إن عملت كل هذه القوى بشكل جماعي منظم يتحمل فيه الجميع مسؤوليته.
نخلص من كل ما سبق أن الطفولة المشردة فئة في عالم منسي، وقد أضحت ظاهرة الأطفال المشردين بالمغرب من الظواهر التي تثير الكثير من القلق، خصوصا أمام تناميها يوما بعد يوم في معظم المدن المغربية؛ صورة تختزل مأساة حقيقية، وتدفع إلى التساؤل عن مصير هؤلاء المشردين داخل المجتمع بعد أن نشؤوا خارج حماية الأسرة، وحرموا أبسط الحقوق.
ونحن نعيش اليوم في وضع استثنائي، بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد، يزداد وضع الأسر الفقيرة التي اضطرت للمكوث في بيوتها مستجيبة لنداء الدولة هشاشة، وأي تأخير في مد يد العون لدعم هذه الفئة لن يزيد الوضع إلا تأزما واحتقانا.